اتفاق موسكو: «قطة سوداء مرّت بيننا»، القافلة تتابع سيرها... واشنطن وعملاؤها ينبحون!
نقلت صحيفتا تقويم (Takvim) والأخبار (Haberler) التركيتان، ومصادر تركية أخرى، جملة تصريحات أدلى بها أردوغان للصحفيين أثناء عودته من روسيا. ضمن هذه التصريحات، وصف أردوغان العلاقة الروسية التركية وما تعرضت له في الفترة الأخيرة قائلاً: «قطة سوداء مرت بيننا»...
لم يعجب التصريح المشار إليه وسائل الإعلام الغربية، ولذا فإنّها غضت الطرف عنه نهائياً. ومعلومٌ أن معتقدات شعبية شرقية، بما في ذلك روسية وتركية، تفسر حدوث خلافٍ مفاجئ بين صديقين مقربين بأنّ قطة سوداء مرّت بينهما؛ حيث تمثل القطة السوداء في هذه المعتقدات رمز الفتنة والشر... ولا يحتاج المرء إلى جهدٍ كبيرٍ ليعرف أيّ قطة سوداء هي المعنية بالحديث!
جوهر الاتفاق
تدقيق النظر في الخرائط والبنود المرافقة للاتفاق «الجديد»، تسمح للناظر بالوصول إلى مجموعة استنتاجات أوّلها وأهمها، هو أن الاتفاق ليس جديداً؛ بل هو بروتوكول إضافي تفصيلي ضمن تطبيق اتفاق سوتشي نفسه الموقع في 17 أيلول 2018. فاتفاق سوتشي نفسه، كان قد وضع مهمتين أساسيتين، فتح الطريقين M5 وM4، والتخلص من التنظيمات المصنفة إرهابية وفقاً للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، وعلى رأسها «النصرة، حراس الدين، الإسلامي التركستاني». البروتوكول الإضافي بهذا المعنى، يمثل توضيحاً للخطوات التي ينبغي تنفيذها ضمن المرحلة القريبة القادمة للوصول لإنجاز سوتشي كاملاً بعد أن تمّ إنجاز أجزاء منه خلال السنة والنصف الماضية.
هذا المعنى كان واضحاً في بنود البروتوكول بمقارنتها مع بنود سوتشي، وكذلك في التصريحات الروسية التي تلت الاتفاق؛ حيث أعلنت المتحدثة الرسمية باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، صباح الأحد 8 آذار، أنه «تم في سير مباحثات الرئيسين الروسي والتركي إنجاز كل ما هو ضروري كي تتحرك تركيا على طريق تنفيذ اتفاقات سوتشي»، وأوضحت أن «هدف المباحثات لم يكن يكمن في وضع اتفاقات ملموسة وتوثيقها كتابياً، بل مراجعة جدول الأعمال بمجمله خطوة إثر خطوة من أجل إعادة إطلاق تلك الاتفاقات التي تم التوصل إليها قبل سنة ونصف السنة». وختمت بالقول: «يتوجب على مباحثات رئيسي البلدين أن تدفع نحو الأمام الاتفاقات متعددة الأشكال مثل عملية أستانا والإصلاحات السياسية الداخلية التي تهدف سورية إلى إجرائها». بما يؤكد الارتباط العميق بين مسارات أستانا وسوتشي وبين تنفيذ القرار 2254 الذي لم يغب عن أي اتفاق عقدته روسيا أو تصريح أدلت به بخصوص الأزمة السورية، وبوصفه الهدف النهائي الواجب التحقيق.
القطة السوداء
بالعودة إلى حديث القطة السوداء، لا ضير من استذكار بعض الأفكار التي وردت في العدد الماضي من «قاسيون» بشكل خاص، وفي مجمل الأعداد الماضية التي صدرت خلال مرحلة «مرور القطة السوداء».
أكدت افتتاحيات قاسيون، وكذلك موادها الداخلية، على أنّ اتفاق سوتشي ماضٍ نحو التنفيذ الكامل، وأنّ عملية أستانا لن تتأثر بالخلاف المضخم الجاري، بل ستخرج منه أكثر قوة وثباتاً. في الوقت نفسه، كان الإعلام الغربي والمسؤولون الغربيون والأمريكيون بشكل خاص، ومعهم كالعادة البريطانيون والفرنسيون، يتبارون في تقديم أفضل صياغة ممكنة لأوراق نعي أستانا، بل وأكثر من ذلك يراهنون على اندلاع ما يشبه حرباً مباشرة بين روسيا وتركيا.
يمكننا في السياق، أن نتذكر (بقدر لا بأس به من الشماتة والسخرية) تصريحات مندوبة الولايات المتحدة في مجلس الأمن كيلي كرافت يوم 28 شباط الماضي خلال جلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي بعد حادثة مقتل الجنود الأتراك: «هذا الهجوم الأخير يجب أن يمثل نهاية حتمية لصيغة أستانا، وهذه الصيغة فاشلة لا يمكن إصلاحها ولا يمكن التعويل عليها لنتوصل إلى وقف لإطلاق النار».
التصريح أعلاه، وكذلك التصريحات البريطانية والفرنسية المشابهة، باتت بعد اتفاق موسكو، وبحق، محلاً للتندر والسخرية. مع ذلك، لا بد لنا من وضع الأمور في سياقها، وهو ما حاولت فعله قاسيون خلال العدد الماضي بشكل خاص في المادة المعنونة «واشنطن تقفز فرحاً ومن ثم جنوناً... ودائماً على هامش أستانا».
في المادة المشار إليها، جرى توضيح أنّ مجرد إعلان واشنطن عن «وفاة أستانا»، في الوقت الذي تصر فيه روسيا وتركيا وإيران على أن العملية لا تزال حيّة رغم ما تتعرض له من مشكلات، هو تعبير عن فقدان الأمل الأمريكي من بثّ الفرقة بين صفوف الثلاثي، أي تعبير عن استيعاب واشنطن أنّها مرت (كقطة سوداء) بين الثلاثي وفشلت في إلقاء لعنتها عليهم؛ ذلك أنّ إعلان عداء شامل لأي تحالف من أي نوع، يعني فقدان من يعادي هذا التحالف وسائل العمل ضد من داخله.
أبعد من ذلك...
بات بإمكاننا اليوم القول، إنّ جملة عمليات التوتير التي جرت بين الروس والأتراك، كانت تمهيداً ضمن سيناريو تفجيري شامل. ضمن عمليات التوتير الأساسي، تلك التي أدت لمقتل الجنود الأتراك، وكذلك مقتل الضباط الروس الأربعة مطلع شباط، وغيرها من العمليات. هذه العمليات كانت مرسومة بطريقة محددة، وبيد القطة السوداء، وليس مهماً هنا من كان المنفذ المباشر لهذه العمليات، بل الأهم من وفر لها السياق المناسب بحيث تبدو عفوية وعشوائية. السيناريو الأشمل في تقديرنا، كان أنّ يرتفع حجم التوتير فوق عتبة لا يمكن الرجوع عنها، بما يؤدي ليس إلى قتل المزيد من الجنود والضباط الروس والأتراك على الأرض السورية فحسب، بل أن ينتقل التوتر إلى الداخل التركي، وصولاً إلى انقلاب جديد يسمح لواشنطن بإعادة تركيا إلى حظيرة الناتو، ويسمح تالياً بتدمير كل ما جرى العمل عليه خلال السنوات الماضية لاستيعاب إرهاب واشنطن وإنهائه ولتطويق حرائقها وإخمادها.
النصرة وطالبان
لدى التعامل مع أفعال القطة السوداء، فإنّ من السذاجة المطلقة التعاطي بخفة مع تصريحات المبعوث الأمريكي جيمس جيفري حول النصرة، والتي لوّح ضمنها بإمكانية رفع الصفة الإرهابية عنها. وكذلك الأمر مع استجابة الجولاني لتصريحات جيفري في المقابلة التي أجرتها معه «مجموعة الأزمات الدولي ICG». يمكن الرجوع في هذا الإطار إلى مادة نشرت في العدد 954 من قاسيون بعنوان «المسرحية الكوميدية الكاملة للثلاثي: جيفري، مالي، جولاني!».
تلميحات جيفري، تكررت على لسانه هو نفسه، وعلى لسان أعضاء في فريقه خلال اشتراكهم في منتدى حواري في اسطنبول في يوم لقاء بوتين وأردوغان. وعبّر أحدهم صراحة إجابة على سؤال عن معنى تصريحات جيفري قائلاً: «لا يمكننا القبول بإبقاء النصرة ذريعة بيد الروس».
ولكي لا تكون تفسيراتنا القائلة بأن واشنطن تسعى سعياً محموماً لحماية النصرة ومن خلالها حماية حراس الدين والتركستاني وأشباههما، معلقة فقط على تصريحات جيفري وفريقه الملغمة، وعلى مقابلة روبرت مايلي مع الجولاني، يمكننا أن نضيف إليهما ما جاء في نص الاتفاق الموقع في قطر يوم 29 شباط بين الولايات المتحدة وطالبان. الاتفاق بمجمله يظهر أنّ طريقة تعريف واشنطن للإرهاب ليست مسألة انتقائية ومصلحية فحسب، بل ووقحة فوق ذلك. ولكي لا ندّعي على الأمريكان بما ليس فيهم، يمكننا أن نستشهد بكلماتهم هم أنفسهم: «ضمان عدم استخدام الأراضي الأفغانية من قبل مجموعات أو أشخاص الإرهاب الدولي ضد أمن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها».
بمنتهى الوقاحة والوضوح: المهم هو ضمان ألا يتم استخدام أفغانستان من قبل الإرهاب ضد الولايات المتحدة وحلفائها، وفقط. الأمر الذي يتضمن عبارتين غير منطوقتين: 1- «الإرهاب بذاته ليس مشكلة»، 2- «المشكلة حين يستخدم ضدنا، ولكن إنْ استخدم ضد أعدائنا فلا مشكلة في ذلك، بل إننا نشجع على ذلك».
في ضوء هذه الشواهد وغيرها، يغدو من الحمق تجنب الاستنتاج الواضح: الولايات المتحدة كانت ولا تزال داعمة للإرهاب على العموم ابتداءً من «مقاتلي الحرية» ووصولاً إلى داعش والقاعدة والنصرة ومشتقاتها.
«منطقة آمنة»
يوم لقاء بوتين وأردوغان، وآن اتضح أنّ «أستانا لم تمت» وكذلك سوتشي، بات من الضرورة بمكان تغطية خيبة الأمل الغربية عبر الدفع نحو مخرج ما من المأزق المذل. وهنا تبرعت هولندا عبر وزير خارجيتها، لاسترجاع مصطلح بائد: «المنطقة الآمنة». وبدأت حفلة تصفيق جماعي شاركت بها الأيدي الصغيرة لبعض المتشددين السوريين، لعل وعسى يجري تسخين الأجواء من جديد، وحرف الأنظار عن حجم خسارة القطة السوداء التي ارتدت لعنتها عليها. ناهيك عن الفيتو الأمريكي الذي استخدمته هذه المرة ضد وقف إطلاق النار «جكارة بالطهارة...»!
بين المصفقين من أخذ منه الهذيان مأخذاً بالغاً، فراح يتحدث عن منطقة حظر جوي، كتفسير لطرح المنطقة الآمنة. بل وأكثر من ذلك رأى رئيس الائتلاف «المعارض»، أنّ «روسيا وإيران ونظام الأسد لا يفهمون سوى لغة القوة كمبدأ للمفاوضات»، مضيفاً «الولايات المتحدة الأمريكية قادرة على التحدث معهم بذات اللغة».
وبدوره، أطلق السيد نصر الحريري، الرئيس المنتهي الصلاحية لهيئة التفاوض، سلسلة تغريدات تصب في خانة القطة ذاتها: «نظام الأسد مجرم ولا خلاف في ذلك ولكن تحميل النظام مسؤولية ما يجري في سورية من تصعيد حالياً لا يكفي. روسيا هي من تتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية هي من تدير المعركة وبدونها النظام لا يستطيع فعل شيء، وروسيا هي من قصفت القوات التركية سواء تم ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر».
ليست مصادفة على الإطلاق، أنّ تصريحات «معارضين شرسين» من طراز السيد الحريري، تلاقت في مضمونها، بل وتطابقت، وربما للمرة الألف، مع تصريحات متشددين على الضفة المقابلة اعتبروا أنّهم مؤيدون لأستانا لكنهم يرون أنّ تركيا لا مكان لها ضمنها! كمن يقول إنه مؤيد للماء المركب من ذرتي هدروجين وذرة أوكسجين، ولكنهم يعترضون على وجود ذرة أوكسجين ضمن تركيبته!
جوهر المسألة
مسار أستانا، وسوتشي ضمناً، وكذلك اللجنة الدستورية، كلها تتلاقى في كونها الأرضية العملية التي سيبنى فوقها تنفيذ كامل وشامل للقرار 2254. وهذا القرار يعني أموراً كثيرة على رأسها استعادة الشعب السوري حقه في تقرير مصيره بنفسه، ويعني تالياً إنهاء الحريق السوري وحرمان أولئك الذين يدفئون عظامهم الهرمة الباردة على ناره، سواء من الفاسدين الكبار والمتشددين على الساحة السورية بمختلف انتماءاتهم، أو على المستوى الدولي، حيث القوة العظمى المتقهقرة والمتراجعة والتي تريد تثبيت التاريخ ومنعه من التحرك قدماً مخافة أن تكسّر عجلته الضخمة عظامها المترققة.
«قطة سوداء مرت بيننا»
خلال عودته إلى تركيا من موسكو، تحدث الرئيس التركي إلى الصحفيين مقيماً العلاقات التركية الروسية بالقول: «قد تكون هنالك حالات صعود وهبوط في العلاقات مع روسيا. أعتقد أن قططاً سوداء قد أتت من مكان ماومرت بيننا، تم توفير وقف لإطلاق النا، سنكون على اتصال مع بوتين، وسوف نتدخل حين تندلع مشاكل».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 956