صبحي غندور صبحي غندور

معايير النصر والهزيمة

تحصل الحروب دائماً من أجل خدمة غايات سياسية. وتكون معايير النصر أو الهزيمة فيها هي مقدار تحقّق هذه الغايات وليس فقط حجم الخسائر العسكرية والبشرية والمدنية.

وهناك هزائم وانتصارات "موقعية" أي ترتبط بموقع محدّد فقط، وأخرى تكون "وطنية" أي تشمل الوطن أو الأمَّة بأسرها كما حدث في نتائج الحرب العالمية الثانية مع دول المحور الثلاثي: ألمانيا واليابان وإيطاليا.
فأميركا مثلاً خسرت حرب فيتنام بعدما عجزت عن تحقيق غايات الحرب فيها، لكن أميركا بقيت قويّة تصارع المعسكر الشيوعي في أماكن عديدة أخرى إلى أن انتصرت سياسياً بسقوط الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة لصالح المعسكر الأميركي.
في الحرب الأميركية/الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، يُمكن القول، حتى الآن، أنّ الغايات السياسية لهذه الحرب قد فشلت وتعثّرت لكنَّها لم تنهزم نهائياً بعد. فحكّام واشنطن وتل أبيب أرادوا من هذه الحرب إطفاء شعلة المقاومة اللبنانية ليكون ذلك مقدّمةً لأوضاع جديدة في لبنان وفلسطين وعموم منطقة الشرق الأوسط بما فيها إيران.
ولم تكن غايات هذه الحرب هي التدمير والقتل العشوائي فقط، بل إنَّ ذلك كان وسيلةً لتحريض اللبنانيين على المقاومة ودفعها وكل لبنان للقبول بالشروط الأميركية/الإسرائيلية لوقف إطلاق النار.
لكن المراهنات كلّها سقطت. فالشعب اللبناني ازداد، مع كلِّ شهيدٍ سقط أو بناء دمَّر، تماسكاً وتضامناً ودعماً للمقاومة.. وتحوّلت المقاومة اللبنانية إلى رمزٍ للمقاومة العربية المنشودة في عموم المنطقة.
إذن، انهزمت الغايات السياسية للعدوان الإسرائيليعلى لبنان، لكنّها هزيمة في موقع محدّد وزمان معيَّن، تماماً كما حصل في العام 2000 حينما أجبرت المقاومة اللبنانية إسرائيل على الانسحاب من لبنان، فذلك الانتصار الهام لم يكن يعني هزيمةً كاملة للدولة الإسرائيلية أو لمشاريعها المستقبلية في لبنان والمنطقة.
ونعم انتصر "حزب الله"، وانتصرت به ومعه شعلة الكرامة والمقاومة ضدَّ العدوان والاحتلال، وانتصر لبنان الدولة والشعب الواحد، لكن هذا الانتصار في الصمود والمواجهة خلال الأسابيع الماضية يحتاج إلى التواصل، بل وإلى التعزيز، خلال الفترة الحالية والقادمة.
فواشنطن وتل أبيب ستعملان على تقويض عوامل نصر المقاومة وتحويل العمل الدبلوماسي والسياسي المرتبط بالقرار 1701، لصالح غايات العدوان.
هي إذن حربٌ مستمرّة في ميادين مختلفة، ولن تُحسَم النتائج النهائية لهذه الحرب إلا بانتهاء الصراع العربي/الإسرائيلي وتحقيق تسوية عادلة وشاملة لكلّ الجبهات بما فيها القضية الفلسطينية.
لكن حرب صيف 2006 أبرزت جملةً من النتائج والخلاصات الهامَّة:
أولاً: إنّ انتصار المقاومة اللبنانية، من خلال صمودها الباسل وردّها الشجاع على العدوان لم يكن فقط حصيلة الجانب العسكري أو الميداني، بل أيضاً بسبب حُسن إدارة المقاومة للصراع ولكيفيّة تعاملها مع التفاعلات اللبنانية والعربية والدولية، ولحرصها على عدم الانجرار لمعارك فرعية تأخذ منها ولا تعطيها، ولإصرارها أيضاً على حصر الصراع العسكري وعمليات المقاومة على الجبهة مع العدوّ الإسرائيلي وعدم وقوعها في فخ "عمليات الخارج" التي، لو حصلت، لأعطت المقولة الإسرائيلية/البوشية عن الإرهاب الإسلامي زخماً كبيراً في العالم كلّه.
ثانياً: إنَّ التضامن الشعبي اللبناني مع المقاومة انعكس تضامناً على المستوى الرسمي ونجاحاً لرئيس الحكومة فؤاد السنيورة في التعامل الدبلوماسي السليم مع تداعيات الحرب. وكان لهذا الموقف اللبناني الرسمي الموحّد أثره الكبير أيضاً في تعديل مواقف بعض الأطراف العربية والدولية حيث أدّى مزيج صمود المقاومة وبطولاتها مع التضامن الرسمي اللبناني إلى وجود الموقف العربي الداعم وإلى تحوّلات في الموقف الفرنسي والدولي عموماً.
والعبرة هنا في هذه التجربة اللبنانية أنّ وجود إرادة صمود ومقاومة مدعومة بوحدة وطنية هي التي تفرض التضامن العربي والتحوّلات في المواقف الدولية، بينما كانت المراهنات في السابق على ترتيب معاكس ينتظر الفرج من الحكومات ويراهن على ضمير وأخلاق الدول الكبرى!
ثالثاً: لقد انتصرت المقاومة اللبنانية في صمودها البطولي لأكثر من شهر، وهي مقاومة حزب واحد فقط في بلدٍ عربيٍّ صغير، فكيفَ لو جرت حالات مماثلة في وقتٍ واحد على كلِّ الجبهات العربية؟
هي إذن المرّة الثالثة التي تسقط فيها مقولة "الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهَر"، فحرب العام 1973 أثبتت ذلك، ثمّ أكّدت هذه الخلاصة، وبشكلٍ واضحٍ جداً، المقاومة اللبنانية في العام 2000، وهاهي تعيد تثبيت انتصارها من جديد.
رابعاً: فشلت إسرائيل وواشنطن في تشويه طبيعة الصراع منذ بدء هذه الحرب الأخيرة. فالمراهنة كانت على توصيف الحرب بأنّها ضدّ حزب الله فقط وليس لبنان كلّه، وبأنّها جزء من صراع مع النفوذ الإقليمي لإيران، وليس حلقة في سلسلة الصراع العربي/الصهيوني، لكن ذلك التشويه أزالته المقاومة بصمودها وبحُسن إدارتها للصراع محليّاً وخارجيّاً، فكانت العزلة هي مصير الإدارة الأميركية وحكومة إسرائيل بدلاً من عزل المقاومة عن شعبها وعن أمّتها.
خامساً: لقد صحّحت الحرب الأخيرة على لبنان مسار المشاعر والمواقف في لبنان والأمَّة العربيّة كلّها. فالشعوب العربية كانت تعيش في حالٍ من الانقسام الداخلي ومن هيمنة تيَّارين؛ أحدهما يدعو للتسليم بالأمر الواقع ورفض أي مقاومة له، والآخر يستبيح التطرّف والعنف الدموي العشوائي ضدَّ المدنيين والأبرياء في وطنه وفي الخارج. فجاءت الحرب الأخيرة على لبنان لتصحّح هذه المسارات الخاطئة ولتؤكّد أهمّية المقاومة للعدوان والظلم لكن في مضمونها الصحيح وأساليبها السليمة وفي أماكن الصراع الحقيقية.

●●●

كثيرون قبل الحرب الأخيرة على لبنان، أعلنوا وفاة هذه الأمَّة وحضارتها وأصالتها، لكن ما حدث ويحدث من تضامن شعبي عربي واسع مع المقاومة اللبنانية يؤكّد أنَّ الأمَّة العربية بخير مهما كانت عليه أوضاع حكوماتها. والأمل أن تنمو هذه الخليّة الحيَّة الصحّية في جسم الأمَّة فتعزّز من مناعته ومن قدرته على مقاومة أمراض سارية فيه منذ ثلاثة عقود ..
كلمةٌ أخيرة إلى البعض الذي قد يجد فيما حدث أنّه انكسار وليس انتصاراً، ندعوه إلى حمل شعلة المقاومة والتعويض عن الهزيمة، لكن لا نقبل من هذا البعض أن يدعونا من جديد إلى الاستسلام وإلى القبول بثقافة الهزيمة.
أمّا من هو الآن في نشوة الانتصار، فندعوه إلى التفكير بهدوء إلى كيفيّة المحافظة على النصر وعلى العوامل الإيجابية التي صنعته.

معلومات إضافية

العدد رقم:
280