ماهر حجار ماهر حجار

عامان على المؤتمر التاسع

مضى عامان على انعقاد المؤتمر العام التاسع للحزب الشيوعي السوري،ومن الطبيعي أن يقوم الشيوعيون بمراجعة نشاطهم وأوضاعهم بين الحين والآخر، فكيف الحال والشيوعيون السوريون قد عاشوا حالة استثنائية في العامين المنصرمين، تجلت بحدوث قطيعتين جذريتين:

الأولى: القطيعة بين قيادة الحزب وجسمه: والتي بدأت عملياً قبل المؤتمر التاسع بفترة قصيرة، حيث راحت بعض الأوساط المتنفذة في القيادة بشن حملة شعواء من الافتراءات والأكاذيب التي تحذر الحزب من خطر ماحق يهدد الحزب ومصيره، لتعبأ، ومن ثم لتبرر، ما سوف تقوم به في المؤتمر التاسع، من إقصاء لكوادر قيادية معينة، واستبدالهم بآخرين سمتهم  الرئيسية، بل الوحيدة، هي الولاء لهذه الأوساط المتنفذة. وقد نجحت للوهلة الأولى هذه الأوساط فيما أرادت، فاغتصبت قيادة الحزب، وولت المستفيدين والمريدين على رقاب الشيوعيين. فكان ما كان من قرارات الفصل والطرد والإبعاد وحل الهيئات التي اتسعت إلى أن طالت حتى الآن أكثر من نصف مجموع الحزب، وكل ذلك تحت شعار: «تنقية الحزب وتطهيره، و أن الحزب يقوى بتطهير نفسه»، هذا «التطهير» الذي أدى بدوره إلى:

القطيعة الثانية: بين موقع الحزب ودوره: موقعه الذي يفترض به أن يكون الطليعة الواعية المنظمة للطبقة العاملة السورية، وكل ما يفترضه ذلك من مهام تكتيكية واستراتيجية، وبين دوره الحالي الذي أوصلته القيادة إليه بتحويله إلى مؤسسة عائلية تضمن الولاء لها، ولكي لا يظن أحد أننا نتجنى، فلنناقش ـ بالملموس ـ كيف قادت القيادة الحالية ـ الجزء الذي لم تفصله من الحزب ـ خلال السنتين الماضيتين، على صعيد المهام  الوطنية والاجتماعية والديمقراطية:

1.  المهام الوطنية: لعل الحدث الأبرز في حركة التحرر الوطني العربية في هذه الفترة، كانت الانتفاضة الباسلة والزخم الشعبي العربي الواسع الذي أمنته لنفسها ببسالتها وصمودها الأسطوري، فقد استطاعت أن تكون رافعة لحركة التحرر العربية ولشعوبها وقواها، بل استطاعت تحريك الشارع في شتى بقاع العالم، مشكلة رأس حربة في مواجهة العولمة، إلا أنها لم تستطع أن تحرك القيادة الحالية، فبينما أصدرت «الشرذمة التروتسكية!» ستة بيانات وزعت في شتى أنحاء البلاد بآلاف النسخ، بهدف تفعيل الشارع السوري لرفع وتيرة الدعم الشعبي للانتفاضة، لم تكلف القيادة الحالية نفسها عناء إصدار بيان واحد بهذا الخصوص. وبينما قامت المنظمات وكذلك الرفاق المبعدون، بشتى أشكال النشاط الجماهيري الشعبي من خلال تنظيم التظاهرات وقيادتها والمساهمة فيها، لم تكلف القيادة الحالية نفسها بتوجيه ما تبقى لديها من تنظيم للقيام بدوره، اللهم، ما عدا بعض النشاطات الصغيرة جداً والتي جاءت من باب «فرض الكفاية». وبالإجمال لم يجد أحد أي دور يذكر لهذه القيادة في كل الأحداث الوطنية في هذه الفترة.

2.  المهام الطبقية ـ الاجتماعية: بعد السيطرة شبه الكاملة على قيادة الحزب،قامت الأوساط المتنفذة بالإزاحة التدريجية لشعار الحزب: «الدفاع عن الوطن والدفاع عن لقمة الشعب» واستبداله بشعار «وطن حر وشعب سعيد». ولم يكن هذا الاستبدال التدريجي عديم الدلالة، إذ سرعان ما تبين النهج الطبقي ـ الاجتماعي لدى هذه القيادة عبر صحيفة «صوت الشعب»، فلم يلاحظ أحد من القراء أية رؤية و اضحة فيها لمسار التطور الاقتصادي الجاري في سورية، وبالتالي فإن عدم وجود رؤية واضحة يعني بالتأكيد عدم وجود أي دور للجريدة في الحياة السياسية وعليه فإن «نضال الشعب» التي حولتها القيادة إلى «صوت الشعب» انتقلت وبسرعة من منظم جماعي لنضال الشيوعيين والطبقات الكادحة إلى مجرد صدى لمطالبهم، وغالباً ما يكون هذا الصدى مشوهاً.

وبالملموس نجد أن الجريدة المركزية للحزب والتي يجب أن يكون من أولى مهامها تحويل الوعي المطلبي العضوي لدى الطبقات الكادحة إلى  وعي سياسي، قد اختارت الطريق المعاكس، وذلك بتقزيم النضال السياسي الطبقي الشيوعي إلى مجموعة من المطالب الجزئية، والتي غالباً ما تتخذ طابعاً تسولياً. ولايحتاج المرء إلى كبيرعناء لإدراك ما تقوم به القيادة من السير في الاتجاه المعاكس للدور الحقيقي للحزب الشيوعي، عبر اختزال نضاله الطبقي إلى مجموعة مطالب جزئية. عندها تصبح الجريدة أداة لتسطيح الوعي بدلاً من تعميقه.

ولعل موقفها من زيادة الأسعار الأخيرة ـ على سبيل المثال  لا الحصر ـ خير دليل على تخاذلها في أداء مهامها الطبقية ـ الاجتماعية، فلم تصدر بياناً توضح فيه موقفها من زيادة الأسعار هذه، ولم يكتب كاتبو الافتتاحية الدائمون والوحيدون أية افتتاحية تدافع عن لقمة الشعب ولو بالأقوال، ولم ينبس ممثلوها في مجلس الشعب ببنت شفة في المجلس اعتراضاً على هذه الزيادة أو حتى التساؤل عن سببها، والأنكى من ذلك كله يصرح عضو مجلس الشعب (أحمد قرنة) أن هذه الزيادة جاءت بموافقة أحزاب الجبهة، ولاندري إن كان يوجد عاقل واحد يستطيع أن يقول أنها لم تتخل بعد عن شعار الحزب في الدفاع عن لقمة الشعب.

3.  المهام الديمقراطية: ناهيك عن قيام القيادة الحالية بضرب أمثولة رديئة في الحياة السياسية عن إقصاء الراي الآخر، عبر ما قامت به من قمع للمنظمات والرفاق وإقصائهم واستعداء السلطة عليهم إلى الحد الذي بات يثير التقيؤ لدى جسم الحزب وأنصاره وأصدقائه وحلفائه، فقد وصل الأمر إلى درجة أن أحد أعضاء المكتب السياسي في حلب يهدد رفاقه جهاراً نهاراً وفي مكتب الحزب بأنه سوف يستدعي لهم أجهزة الأمن لأنهم خالفوه في الرأي. أقول: ناهيك عن كل ما حصل ويحصل في هذا الصدد والذي بات معروفاً للقاصي والداني، نجد أنه لزاماً علينا في هذا المضمار أن نناقش أداء القيادة الحالية للمهام الديمقراطية وتخاذلها في القيام بالدور الديمقراطي المطلوب.

تشير جميع المراسيم والقوانين والتوصيات والتصريحات الحكومية في سورية إلى سير الحكومة في اتجاه تشجيع الاستثمار المحلي والعربي والأجنبي، وفتح المجال أمام القوى البرجوازية المحلية والخارجية لممارسة نشاطها الاقتصادي دون محظورات تذكر. ومن نافل القول أن كل هذا سيؤدي إلى تقوية النفوذ السياسي للبرجوازية في سورية. فإذا كان يجري ذلك كله تحت يافطة تجميع كل القوى والطاقات في المعركة الوطنية، فإن ألفباء الماركسية تعلمنا أن مجتمعاً يقوم على الإنتاج البضاعي ويتعاطى التبادل مع الدول الرأسمالية المتقدمة، لابد له في مرحلة من تطوره، أن يضع سؤالاً حول موقف البرجوازية من السلطة. والسؤال: ماذا تريد البرجوازية الآن  بصدد مسألة الديمقراطية؟ وما هو دور الحزب الشيوعي؟

عند الإجابة نجد أنه من المفيد للبرجوازية أن تعتمد في صراعها الطبقي من أجل السلطة… مع الطبقات الكادحة على بعض قضايا الماضي من فساد وعشائرية وغيبية وغيرها من الأمراض الاجتماعية وتحديداً على قطاعات معينة من البرجوازية البيروقراطية، فالبرجوازية بطبعها عاجزة على الدوام عن التحلي بنزعة ديمقراطية منسجمة، فالأجدى لها أن تتوسع الديمقراطية بمزيد من الحذر والتدرج والبطء، وأن تسهم هذه التحولات بأقل قسط ممكن في تطوير المبادرة والعزيمة لدى الطبقات الكادحة.

ماذا يعني ذلك؟

يعني أن غاية المنى لدى البرجوازية السورية هي فتح هامش ديمقراطي يطيح بالأشكال المعرقلة لها، على أن يكون هذا الهامش مكبوحاً وغير حازم، أي أن تكون الديمقراطية لها  لاعليها، وهي تدرك تمام الإدراك أنه كلما اتسعت الديمقراطية انقلبت عليها،و خاصة أثناء المراحل الانتقالية. من هنا يتضح تماماً أن دور الحزب الشيوعي يتلخص تحديداً في توسيع الهامش الديمقراطي إلى الحد الأقصى الممكن عبر النضال الديمقراطي الحازم والمتسع إلى اقصى مدى، وذلك بإطلاق روح المبادرة والإرادة والفعالية لدى الطبقات الكادحة والاعتماد عليها في النضال الديمقراطي. وبالمفهوم «الشرذموي!»: العمل من تحت ـ إعادة الجماهير إلى الشارع ـ استقلالية النقابات ـ حق الإضراب…

والخطير في الأمر أن ما تقدم تتحدد أبعاده ومعالمه وتتوضع أسسه في المراحل الانتقالية فقط، وبالتالي فإن أي تردد أو تخاذل أو إهمال للنضال الديمقراطي ـ والحال كذلك ـ يعني عرقلة أو حتى إلغاء دور الحزب الشيوعي لفترة تاريخية قد تكون طويلة. فكيف كان أداء قيادة الحزب؟

لقد وضعت قيادة الحزب النضال الديمقراطي على الرف، معتبرة أي نضال من أجل توسيع الديمقراطية ما هو إلا مغامرة غير محسوبة النتائج، بل إنها اعتبرت النضال الديمقراطي يصب في خانة أعداء الوطن والقوى المشبوهة، وأخذت تروج أن كل نشاط سياسي خارج النطاق الجبهوي ما هو إلا محاولة لضرب الوحدة الوطنية.

ونصبت القيادة نفسها وصية على العمل السياسي في سورية يحكمها في ذلك فقدانها الثقة بشكل كامل بطاقات الجماهير، وكان عليها أن تختار أحد أمرين: أما العمل من فوق أوالعمل من تحت. ونتيجة لفقدانها الثقة بطاقات الجماهير اختارت الخيار الأول، بل حاولت ومازالت تحاول أن تستخدمه في صراعها مع الحزب مستغلة في ذلك اغتصابها لتمثيل الشيوعيين في الجبهة بإبعاد الكوادر الشيوعية المجربة عن مواقع عملها النقابي والتحالفي، كما استغلت ذلك التمثيل لحسم الصراع بين الحزب وقيادته. وبذلك نجد أن هذه القيادة. لم  تكن فقط عاجزة عن النضال الديمقراطي بل وشكلت كابحاً له (توحد هدفها في الكبح مع البرجوازية!!) وهي تظن كل الظن أنها بقدر مهادنتها للبيروقراطية تحصل على امتيازات سلطوية أكبر، وهذا ما يهمها في نهاية الأمر.

وهكذا استطاعت وبجدارة قلب الدور المنوط بها رأساَ على عقب. وتبلغ المفارقة ذروتها عندما تخلق تناقضاً وهمياً بين المهام الوطنية والمهام الديمقراطية.

تساؤلات:

الآن وبعد عامين على انعقاد المؤتمر التاسع للحزب، يحق لمجموع الحزب وأصدقائه وأنصاره وحلفائه أن يتساءلوا:

1. لماذا جرى ما جرى وما هو المبرر الأيديولوجي والسياسي لحدوثه؟

2. اين مظاهر التروتسكية «اليساروية الشكل، اليمينية المضمون» في كل البيانات التي أصدرتها لجنة متابعة تنفيذ الميثاق؟ وأين هي في كل البيانات التي أصدرتها لجنة متابعة تنفيذ الميثاق؟ وأين هي في كل افتتاحيات «قاسيون»؟ ولم لم تناقش ولم يشر إليها إن وجدت؟

3. لماذا ارتدى شكل التعامل مع انتفاضة قواعد وكوادر الحزب أسوأ الأساليب؟ ولما لم يتم التعامل معها على أساس النظام الداخلي ووثائق المؤتمر التاسع ومقرراته  التي أصبحت القيادة الحالية بموجبها «قيادة»؟

4. لماذا تزداد المنظمات والرفاق المعاقبون قوة واحتراماً وتماسكاً وفعلاً سياسياً بينما يزداد تراجع القيادة الحالية وتزداد عزلتها وقطيعتها مع الواقع السياسي ومع جسم الحزب؟

إن هذه التساؤلات وغيرها الكثير الكثير… بحاجة إلى إجابة، ولاندري إن كان في حملة الترشيح الحالية للأمانة العامة جواباً.

الحزب الشيوعي الحقيقي ضرورة وطنية:

لقد أثبتت الأحداث في العامين المنصرمين فشل قيادة الحزب فشلاَ ذريعاً في تنفيذ المهام الوطنية والطبقية والديمقراطية الملقاة على عاتق الحزب وأكدت بما لا يدع مجالاً للشك لعاقل أن المقصود مما قامت به القيادة الحالية أثناء انعقاد المؤتمر التاسع وبعده هو استبدال حزب شيوعي طليعي بمؤسسة انتفاع شخصي ذات طابع تسولي، وهي وإن كانت قد نجحت حتى الآن في تأمين بعض الهيكيليات المنسجمة مع توجهاتها فإنها لم تستطع أن تجهض قوى الحزب الحقيقية. فرغم كل الأزمة المفتعلة، قام الشيوعيون وبقدر لا بأس به من النجاح بمهامهم الوطنية والطبقية والديمقراطية. مدركين تمام الإدراك أن أي تردد أو تخاذل في تنفيذ مهامهم عبر إلهائهم بالأزمة المفتعلة تعني تماماً السماح بتغيير نسبة القوى الاجتماعية والسياسية في سورية بشكل يبعد الشيوعيين عن الحياة السياسية بما يمثلون من محرك أساسي لها، وبالتالي شل التفاعل الموضوعي للقوى السياسية والاجتماعية. وكما استطاع الشيوعيون السوريون على الدوام، وعبر تاريخهم الطويل أن يحموا حزبهم خلال كل الأزمات التي مروا بها فإن نشاطهم في العامين الماضيين رغم تخاذل قيادتهم أثبت قدرتهم على حماية دور حزبهم ووجهه  المستقل عبر العمل الملموس.

 

ولايبقى أمام الشيوعيين السوريين، سواء الذين أبعدوا عن الحزب أو الذين لم يبعدوابعد، سوى تأطير عملهم بأن يعقدوا المؤتمر الاستثنائي لإعادة الأمور إلى نصابها خاصة وأن عدد  الموقعين على طلب عقد مؤتمر استثنائي ـ وحسب البطاقة الحزبية ـ  قد تجاوز الحد المطلوب في النظام الداخلي. وليعلم جميع الرفاق أياً كان موقعهم أن الانتقام وتصفية الحسابات لن يكون ابداً من أهداف من يطلب المؤتمر الاستثنائي، بل الوصول إلى حزب شيوعي حقيقي يقوم بدوره الطبيعي ويبرر وجوده  الموضوعي في حياة البلاد.

معلومات إضافية

العدد رقم:
182