الباحث سلامة كيلة الباحث سلامة كيلة

إطلاق الحوارالعام من أجل وحدة الشيوعيين السوريين.... ما الماركسية؟

السؤال الآن إذن هو: ما الماركسية؟ حيث أن الخلاف الماضي، أو أن سوء الفهم الذي حكم رؤية الماركسية تمثّل في تحديد ماهيّتها. هل هي أيديولوجيا الطبقة العاملة؟ أم أنها نظرية مكتملة؟ أم هي علم؟ إذن ما هو؟ أم أنها منهجية في التحليل والدراسة و العمل؟

هل هي أحكام منجزة من مختلف القضايا؟ وهنا يشمل الاقتصاد و الأخلاق و العلم والسياسة والفكر......... الخ. لقد كانت وفق الوعي الذي راج أحكام منجزة من مختلف القضايا لهذا بدت كنصوص مقدّسة وكدستور مطلق و بالأساس كآيات. فقد تحوّل النص إلى مقدّس كونه نتاج ماركس (أو انجلز أو لينين أو ستالين أو تروتسكي أو ماو ...)، وهنا تساوى المفهوم والقانون المنهجي والقانون الجزئي و الاستنتاج و التوقّع. تساوى السبب والنتيجة. وتساوى الخطأ والصواب. وتساوى الجزئي والكلي. وتساوى العام والخاص. وكذلك تساوى الحدث وتحليله. و بالأساس تساوى الجوهري والعرضي.

إن عملية غير منهجية حكمت «تصنيف» الماركسية، مستندة الى نظرة قداسية لكل ما يمتّ إلى مؤسسيها، مما أفضى إلى تأسيس أيديولوجيا مغلقة مكتملة، وأن يصبح هدف الواقع هو أن يخضع لحتميتها وصرامتها، وأن يسير وفق منطقها. وبذلك عادت الماركسية تصوّرا مثاليا للعالم، وتخلّفت عن وعي الصيرورة الواقعية لحظة تجميد لحظة منها في نصوص مكتملة، ومن ثمّ أخرجت من تلك الصيرورة ولم تعد فاعلة فيها.

هذه هي الإجابة الرائجة لسؤال ما الماركسية، وهي الإجابة التي أسست لتجارب فاشلة، وهي الماركسية التي عممت تحت اسم الماركسية اللينينية. لهذا هل نستطيع أن نجيب إجابة أخرى اليوم؟ وأولا هل نستطيع أن نتعامل مع الماركسية ( أي أن نتعامل مع نصوص ماركس و انجلز ولينين و....) بطريقة منهجية لكي نستطيع تحديد الجوهري فيها؟

هذه هي المراهنة اليوم ونحن نسعى لتأسيس جديد على المستويين الفكري والعملي. إن بحث ماركس الدائب كان يهدف إلى تأسيس الطريقة، لهذا كان هيغل جوهرياً بالنسبة له لأنه صاحب طريقة اعتبرها ماركس اكتشافاً هائلاص، واقصد طبعا الجدل. وإذا كان ماركس قد «تبنى» أفكارا من سابقيه ومعاصريه، لأنه اعتبر أنها علمية(مثل مفهوم صراع الطبقات والاشتراكية ومفاهيم البرجوازية و البروليتاريا...) فقد أعطاها اتّساقها و توصّل عبرها إلى تصوّرات و قوانين جديدة حينما أسسها على الجدل المادي، أي حينما حلل الصيرورة الواقعية عبر الجدل. بمعنى أن الجدل أصبح أساس منظومته وعلى ضوئه توصّل إلى قوانين وتصوّرات. وبالتالي فان الجدل هو مركز الماركسية وأساس تشكيلها. انه لولبها وأساس صياغة قوانينها وتبلور تصوّراتها، وحيث ينتفي تتحوّل إلى «نص مقدّس» ينحكم لمنهجيّة القياس. أو تتقلّص إلى مستوى ضيّق منها هو الاقتصاد، أو الفلسفة، أو علم الاجتماع، أو السياسة التي تتقزّم إلى تكتيك. أو كذلك تنحكم إلى منهجية انتقائية. وهذه كلّها حالات نشأت في القرن العشرين وأسست لنشوء ماركسيّات، الأمر الذي يفرض إعادة التفكير في الماركسية وتناولها كمنهجيّة أولا، لكي يعاد تحديد «مكوّناتها» وتأسيس منظوراتها.

طبعا يمكننا أن نحدد النواظم الأساسية للجدل المادي، والقوانين التي يتأسس على ضوئها، رغم الاختلاف الذي حكم النقاش حول هذه القوانين، وخصوصا حول مفهوم نفي النفي، ولكن أيضا حول القوانين والمفهومات و الترابطات والعلاقات التي يكونها. وأشير هنا إلى أن الجدل المادي اعقد من المبسّطات التي صاغها ستالين (أو حتى انجلز)، والتي غدت الأساس الذي صاغ «العلماء السوفييت» الجدل وفقه. ليغدو فقيرا ومشوّشا أولا وتأمليا ثانيا، واقصد هنا انه تقزّم الى مفاهيم ثلاثة انشطب منها قانون نفي النفي وتحوّلت إلى معادلة رياضيّة بسيطة، ثمّ أنها تبلورت مستقلّة عن المستويات الأخرى (أي عن المستوى الاقتصادي و المستوى الاجتماعي والمستوى السياسي) مما أعادها «فلسفة كلاسيكيّة» تبحث في ذاتها، دون ترابط (وهو ترابط ضروري وحاسم) مع المستويات الأخرى، رغم أنها أساس (أو روح أو كينونة) هذه المستويات وأساس الترابط فيما بينها. فالجدل المادي منظومة مترابطة (كترابط الواقع وتشابكه وتعقّده) تحوي المفهومات الأوّليّة (مثل مفهومات الشكل/ المضمون، النسبي/ المطلق، العام/الخاص، الجزء/الكل...) كما تحوي قوانين (مثل التناقض، التراكم الكمّي والتغيّر النوعي، ونفي النفي) وهي منظومة الترابطات فيما بين كل ذلك، ومن هنا ينبع تعقيدها. وإذا كان ماركس لم يبلور منهجه في «كتاب» رغم تفكيره في ذلك كما تشير بعض مخطّطاته، وإذا كان انجلز قد قام بمحاولة في كتابه «ضد دوهرنج»، فان أية محاولة جادة لم تحصل رغم وجود شروحات وملاحظات لدى العديد من المفكرين (لينين، غرامشي، لوكاش، هنري لوفيفر، سارتر و خصوصا ماو تسي تونغ). هذا الأمر يفرض البحث المعمّق في الجدل المادي، كما يفرض العودة إلى هيغل كونه «أبو» الجدل ومنظّره (وان كان بمعناه المثالي) لكن مع وعي فعل ماركس وآليّات إيقافه هيغل على قدميه، أي آليّات تحويله الجدل إلى جدل مادي.

مرّة أخرى ما الماركسية؟

لهذا حينما توصم الماركسية بأنها علم هكذا على الإطلاق، أي دون الحذر الضروري ودون تحديد أيها العلم فيها، تنشأالارادويّة التي يفرضها العلم الوضعي. حيث تنتفي العلاقة الجدلية بين الذات و الموضوع و بين الأنا و الآخر، كما يسقط الترابط بين مجمل المستويات. وإذا كانت الماركسية ليست علما فقط بل أيديولوجيا كذلك، تتمظهر في أحلام وربما أوهام أيضا، وتؤسس لمثال هو المستقبل كما تريده الذات، ليس بالضرورة أن يكون صحيحا و بالتالي علميا دائما. كما أن فعل البشر لا يخضع لإرادتهم دائما لأنها تتفاعل مع الظروف الواقعية التي تحدّ من اطلاقية إرادتهم وتخضعها لشروط محددة مسبقا كما أشار ماركس.

من هذا الأساس يحمل التعريف بأن « الماركسية اللينينية هي علم التحكم الواعي بالعمليات الاجتماعية» شحنة ارادوية هائلة. وإذا تجاوزنا التسمية (أي الماركسية اللينينية) فان الماركسية هي الآليات التي تسمح في وعي الصيرورة الاجتماعية (الواقع) ووعي دور البشر (الذات) فيها بهدف تحقيق الارتقاء، وهنا نحن نشير إلى الجدل المادي تحديدا لأنه المطابق المجرّد للصيرورة ذاتها. أي أن المسألة لا تتعلّق بالتحكم رغم أن وعي الظاهرة (أية ظاهرة) يزيد من المقدرة على التأثير فيها (وليس التحكّم)، وبالتالي فان المسألة تتعلق بالتحديد الأدق لدور البشر انطلاقا من وعي موقعهم في الصيرورة الاجتماعية، لأن هذا الوعي يزيد من فعلهم فيها. ولاشك أن في ذلك ميلاً للسيطرة على الطبيعة والمجتمع، أي على الصيرورة، وهي المسألة التي يفرضها اعتبار الإنسان هو الغاية.

إذن سيكون وعي الصيرورة - عبر الجدل - هو الأساس الضروري من أجل تحديد فعل البشر، وبالتالي تحديد دورهم فيها. وكلما ازداد الوعي ازدادت المقدرة على التأثير والسيطرة.

وهنا تكمن قيمة الجدل المادي وتتوضّح أهميته. فالماركسية تقول بأن هدفها هو وعي الواقع من أجل تغييره لمصلحة الإنسان، والجدل المادي هو أداتها في ذلك.

هذه النتيجة تفرض، ليس التحديد العمومي للانتماء الفكري، بل تفرض تحديد المنهجيّة  (التي هي الجدل المادي) والبحث عن القوانين في الماركسية، وكذلك البحث في رؤاها لمختلف المسائل. وهذه موضوعات كبيرة وتحتاج إلى بحث مستمر، وليس بالضرورة أن يجري الاتفاق التام حولها، حيث ستبقى مجال تفاعل مستمر. لكن هناك مسائل هامة وحاسمة فيما يتعلق برؤيتنا وتصوّراتنا من المفترض أن تكون ذات أولوية في البحث و الحوار، وهي المسائل التي تكون اقرب إلى الواقع المعاش والتي تسهم في الوصول إلى فهم الواقع و بالتالي تحديد التصوّرات العملية التي تفتح الأفق لتغييره.

لهذا يجب أن يفتح الأفق لنقاش منظومة تبدأ من المنهجية وماذا تعني وكيف تحدّد، إلى رؤية ألتاريخ إلى الأمة و الدولة، إلى الحزب، إلى الاستراتيجية و التكتيك، الى النمط الرأسمالي وطبيعة الاشتراكية، إلى دور الماركسية في المراكز الرأسمالية وأطرافها، إلى مفاهيم مثل دكتاتورية البروليتاريا والمركزية الديمقراطية. ويجب أن يقود النقاش إلى تبلور التصوّرات حولها من أجل تأسيس رؤية جديدة، فالمسألة تتعلّق بإعادة صياغة التصوّرات على ضوء مراجعة الماضي الفكري (أي علاقة الماركسية السوفييتية بالماركسية)، كما على ضوء الواقع الراهن (أي علاقة الماركسية بالواقع). إننا في مرحلة تفرض إعادة بناء التصوّرات من أجل إعادة بناء الممارسة.

وهنا يكون التأكيد على الجدل المادي ذا أهمية كبيرة.