القبيلة والحزب..
الحزب هو في الأساس نجم عن اتفاق مجموعة برلمانيين ذوي مصالح مشتركة، وكانت شعبيته هي شعبية البرلمانيين المتحالفين فيما بينهم، ثم نزل الحزب إلى الشارع، أي أصبح بإمكان أية مجموعة ذات مصالح سياسية أو اقتصادية مشتركة، أن تؤلف حزباً.
«الحزبية» في أوربا
عصبة العمل الشيوعي في أربعينيات القرن التاسع عشر كانت حزباً غير برلماني (أي لم تتشكل من نواب في البرلمان)، ولم تستطع أن تتغلب على تناقضاتها الداخلية، وكذلك الأممية الأولى، التي ورثتها. كانت العصبة والأممية مشروعي حزب دولي، أما الأممية الثانية، فكانت ائتلاف أحزاب وتنظيمات عمالية.
من بين أحزاب الأممية الثانية انفرد الحزب الديمقراطي ـ الاجتماعي ـ الروسي ببرنامج عمل خاص هو تغيير النظام في روسيا القيصرية.
وانقسم الحزب في 1903 بين فريقين سميا بالأغلبية (بولشفيك) والأقلية (منشفيك). الأول يطرح أن يتألف الحزب من أعضاء ملتزمين ثورياً وخاضعين لتنظيم صارم، كما يطرح الانتقال بالمجتمع إلى الاشتراكية العلمية، بينما يطرح الثاني، أن يتألف الحزب من أنصار، ويطرح الانتقال إلى الديمقراطية قبل الانتقال إلى الاشتراكية.
البولشفيك هم الذين صنعوا ثورة اكتوبر 1917 في روسيا القيصرية، أما المنشفيك، فبقوا خارج الثورة رغم محاولة البولشفيك استيعابهم، وتحولوا فيما بعد إلى معادين للثورة.
الحزب الفاشي في ألمانيا وإيطاليا ارتبط فيه التنظيم شبه العسكري مع دكتاتورية الزعيم، والتنظيم شبه العسكري يختلف جذرياً عن التنظيم الملتزم في الحزب البلشفي، الذي هو عقلاني وحر. أما التنظيم شبه العسكري، فالالتزام فيه لا يترافق بالضرورة مع قناعة الشخص الملتزم، والالتزام هنا قسري، وليس حراً.
التنظيم العسكري يعود إلى أيام العبودية، ويتألف من آمر ومقاتلين عبيد، وطورته الثورة الفرنسية الثانية /1794/ إلى منظمة قتالية لمصلحة الوطن، لا لمصلحة السيد القبلي أو الإقطاعي، والحزب عندما يتحول إلى تنظيم شبه عسكري ودكتاتور، تزول عنه صفة المنظور الوطني.
في الأدبيات الرأسمالية الدولية ثمة مقارنة ديماغوجية بين الحزب الشيوعي السوفيتي والأحزاب الفاشية، على اعتبار أن جميعها شمولية Totalitaire Totalitarian. إن ظروف الثورة الصناعية الروسية، والحرب العالمية الثانية، التي تستلزم تجنيد الشعب السوفيتي بكامله، هي التي فرضت صرامة الالتزام في الحزب الشيوعي السوفيتي، بينما الحزب الفاشي أنشئ بالأساس تنظيماً شبه عسكري، وبهدف تطويع العمال للنظام الرأسمالي في البلد، وأيضاً من أجل تشكيل قوة تقسيم المستعمرات مع إدارات البلدان الاستعمارية، أيضاً الحزب الشيوعي هو من أجل الفئات المضطهدة في الشعب، وبها، أي من أجل الطبقة العاملة والفلاحين، وبهم، بينما الحزب الفاشي هو من أجل الرأسمالية في البلد، وضد الطبقة العاملة والفلاحين.
ففي البلدان المتطورة وجد إذن، الحزب الذي يتألف من أنصار، هدفه الأصوات الانتخابية، والناشطون فيه من الأنصار، مهمتهم إعلامية، وأحياناً قبضاوية عدوانية، والحزب الذي يفرض الالتزام على أعضائه، وهذا الالتزام، إما عقلاني حر، ولمصلحة الطبقة العاملة وحلفائها أو هو شبه عسكري وقسري ولمصلحة الرأسمالية.
«الحزبية» في البلدان الثالثية
وانتقل مفهوم الحزب من البلدان المتطورة إلى المستعمرات، البلدان الثالثية، فيما بعد.. ونشأت في المستعمرات عموماً أحزاب الاستقلال، أي التي تهدف، أياً تكن تسميتها، إلى استقلال المستعمرة من السيطرة الخارجية.
وأحزاب الاستقلال دخل في تركيبها عاملان، الأول هو العامل الداخلي، الذي اعتمد المنفتحين على التطور، وهم المثقفون وميسورو المدن، وأيضاً وجهاء الريف، وهم عموماً عائليون وقبليون، والثاني هو العامل الخارجي، وينتج من الصراع المعلن أو الخفي للإدارات الاستعمارية فيما بينها.
وأحزاب الاستقلال ليس لديها برنامج عمل سوى الاستقلال، أي ليس لديها لا منظورات سياسية، ولا اقتصادية ولا اجتماعية، وقيمها الاجتماعية هي عموماً تقليدية، وتستند إلى الأعراف القائمة.
وبعد الحرب العالمية الثانية نجحت أغلب المستعمرات في الحصول على استقلالها السياسي، وتسلمت الحكم فيها أحزاب الاستقلال، التي أقامت أنظمة استمرارية للأنظمة التي بناها المستعمر (جمهوريات برلمانية في البلدان التي كانت تحت الاستعمار الفرنسي، وملكيات «دستورية» عموماً في البلدان التي كانت تحت الحكم الانكليزي، ولم يكن ممكناً في حينها غير ذلك، أي في حين التحرر من الاستعمار).
وما كان ممكناً استمرار الوضع على ما هو عليه في البلد المستقل حديثاً، فهناك مطالب كامنة اجتماعية وسياسية واقتصادية، وهناك في الوقت نفسه تحولات في الوضع الدولي، تستدعي التحولات في البلدان المستقلة حديثاً.
ونشأت في البلد المستقل حديثاً أحزاب مناهضة أو منافسة لحزب الاستقلال. وهذه قد يكون بدأ تكونها قبلاً، ولكن لم تستطع أخذ الدور الأول، والتقدم على حزب الاستقلال القائم، أما بعد الاستقلال فيتصاعد نشاطها بفعل المؤثرات الداخلية والخارجية.
وأحزاب ما بعد الاستقلال يمكن تصنيفها في ثلاث زمر، الأولى منافسة لحزب الاستقلال، أي تركيبها الاجتماعي والسياسي هو النظير نفسه لحزب الاستقلال، فتعتمد على كتلة منافسة لكتلة حزب الاستقلال، مؤلفة من ميسوري المدن، ووجهاء الريف، فحزب الشعب في سورية، مثلاً، لا يختلف في تركيبه الاجتماعي والسياسي عن الحزب الوطني الذي كان يدعى الكتلة الوطنية، والثانية هي الأحزاب ذات التركيب التقليدي، وهي تعتمد القومية أو الطائفية. القومية منها هي عموماً وطنية، ولكن تتمايز في كونها أميل إلى الشوفينية، أو إلى التحررية، فالأميل إلى الشوفينية تكون رجعية، وتنتهي غالباً بإحباط، بينما الأميل إلى التحررية، يكون لديها برنامج اجتماعي، وتستمر بمقدار ما تبقى متمسكه به. والطائفية هي رجعية بالكامل، وليس لديها أي برنامج، ولا تستطيع الاستمرار إلا بالاعتماد على الخارج. والزمرة الثالثة هي اليسارية، وهذه قد تكون بمعنى الانتماء إلى الاشتراكية غير العلمية، وهذه لا تستطيع أن تستمر، إلا إذا كانت تغطي توجهاً طائفياً، أو بمعنى آخر هي غير يسارية، وإنما تغطي باللافتة اليسارية توجهاً لمصلحة الرأسمالية الدولية، وقد تكون بمعنى الانتماء إلى الاشتراكية العلمية، وهذه تواجهها صعوبات عديدة في البلدان الثالثية، وهي بشكل عام ممنوعة من النشاط، ومن جهة أخرى تواجه التشكيلات القبلية والعائلية الصعبة النفوذ إلى أفرادها المضطهدين، أيضاً الطبقة العاملة ضعيفة القوة وضعيفة التكوين السياسي، وتتجاذبها التشكيلات التنظيمية الأخرى، بما فيها التشكيلات القبلية والعائلية، وهناك كذلك صعوبة التمويل، وربما كانت تعتمد على مساعدة الاتحاد السوفيتي، وبعد انهيار نظام الاشتراكية العلمية، لم يبق لديها سوى الاعتماد على النفس، إضافة إلى ذلك هي ليست في جزيرة منعزلة عن التركيب الاجتماعي القائم، أي يدخل إلى صفوفها الخلل القبلي والعائلي إلى هذا الحد أو ذاك.
أحزاب التحرر وأحزاب الاشتراكية العلمية تحتاج نقداً ذاتياً قاسياً، وقفزة نوعية، كي تستطيع التأثير في مجتمعاتها.
التشكيلات القبلية والعائلية
أخطر التشكيلات التنظيمية، أو شبه التنظيمية تأثيراً في العالم الثالث كله، ومن الجملة في المنطقة العربية، هي التشكيلات القبلية والعائلية، وهي في المدينة أقل تأثيراً منها في الريف.
التشكيل القبلي والعائلي قديم قدم التجمع الإنساني، والأعراف فيها الأب أولاً، (ويمكن أن تكون تسميته الشيخ أو الأمير، أو أي اسم آخر)، ثم حاشيته، ثم الأفراد، وله في المنطقة العربية، أعراف متكاملة، هي التشريع الذي يطبقه التشكيل في قضاياه الداخلية، وفي علاقاته بالخارج، ولا نعرف، إن كان ثمة ما يماثل ذلك في مناطق أخرى.
علاقة الأب بأفراد التشكيل هي العبودية، ويقول المثل في العائلة الصغيرة، «أنت ومالك لأبيك». لذلك في بعض الأوساط التقليدية قد يصل ابن سن الشيخوخة، ويكون له أحفاد، وتبقى مرجعيته هي الأب.
طبعاً تطورت الأمور كثيراً أو قليلاً عن ذلك الشكل التقليدي للحياة الاجتماعية، ولكن تبقى جذورها مغروسة في النسيج الاجتماعي. قد نرى اليوم أبناء متمردين عن حق أو عن باطل، ولكن الرأي العام الاجتماعي حولهم يتألب ضدهم. أما المرأة، إذا ما تمردت في بعض الأوساط فيكون نصيبها القتل الوحشي. وهو قتل وحشي، لأن أي إنسان طبيعي بإحساسه وبمشاعره لا يمكن إلا أن يشعر بالاشمئزاز من أب أو أخ يقتل بدم بارد ابنته أو أخته، ويشعر بالفخر أنه غسل العار، مع أن ما فعله هو العار، وفي غير الأوساط الضعيفة التطور، تكون المرأة المتمردة محاصرة اجتماعياً، يتهامس الناس عنها وتلوكها الألسنة.
وقد لا يرى المرء أياً من ذلك في بعض الأوساط، ولكن إذا ما دقق يرى التقاليد تتغلغل، ليس فقط لأن أصحاب العلاقة يؤمنون بها، وإنما لأنهم محاصرون اجتماعياً. التشكيلات القبلية لم تعد كما كانت في الماضي، ولكنها تؤلف رواسب قاتلة في المجتمع، رواسب سياسية، ورواسب اجتماعية ورواسب اقتصادية.
الرواسب تبني الإنسان في جو غيبي، وتجعله بعيداً عن فهم الظاهرة السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية، أو حتى عن فهم حقيقية علاقته مع الآخرين. يتشاجر مع فلان، لا لأن هذا اعتدى عليه، وإنما لأنه سافل، لم هو سافل؟ لا يستطيع صاحب العلاقة أن يجيب، ويمدح فلاناً، ويتصاحب معه، لأنه طيب: بم هو طيب؟
قد لا يستطيع أن يجيب بدقة: قد يكون هذا لصاً أو مجرماً أو جاسوساً، ولكنه لطيف المعشر؟ وقد يمدحه ويتصاحب معه فقط لأنه جاره أو قريبه، كثيرون هم الذين انجروا إلى مواقف جرمية أو سياسية لا يريدونها من خلال صداقات بريئة.
خاتمة
الظاهرة السياسية، أيا كانت، هي محصلة لعوامل داخلية وخارجية، ولكن التفسير الغيبي هو أنها حصلت، إذا كان مغضوباً عليها، لأن فلاناً خائن، وإذا كان مرضياً عنها، لأن فلان وطني، أو ثوري، أو لديه كاريزما، فمثل ذلك ينطوي على ابتعاد عن فهم الظاهرة، وعن فهم الأحداث التي تدور حول المرء، وإذا ما اشترك المرء في الأحداث، كثيراً ما يكون تأثيره سلبياً، لا إيجابياً، ولا يظن المرء أن هذا يحدث مع أناس من ضعيفي الثقافة أو ضعيفي الاطلاع السياسي فقط، وإنما أيضاً مع الكثير من المحللين السياسيين. إن الفهم الغيبي للأمور، الذي ينطلق من الطموح وكأنه واقع، وينطلق من أن كونه ليس واقعاً، سببه فلان أو فلان، هو الذي جعل من العمل السياسي في المنطقة ساذجاً، وتسبب بالإحباط للعديد من الوطنيين، وتسبب أحياناً بالكوارث.
الرواسب القبلية هي مصدر كل ما هو غيبي في تفكيرنا السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ولن يدخل العمل السياسي مرحلة النقاهة ما لم يتخلص من تلك الرواسب.
والفكر الغيبي الذي تحمله تلك الرواسب هو الذي يؤلف الأرض الصالحة للتنظيمات الطائفية التي فتكت، وتفتك ببلدان العالم.
هناك قبائل ما تزال، ولكن حتى الأشد تقليدية منها، لم تعد كما في الماضي، وتحرر أفرادها قليلاً أو كثيراً، ولكن بقيت على شكل رواسب ذات تأثير كبير، محسوس أحياناً، وغير محسوس أحياناً أخرى.
وأحزاب التحرر وأحزاب الاشتراكية العلمية لا تستطيع الانتفاض على واقعها، ما لم تحلل تلك الرواسب، وتتصدى لها في عملية نضالية بعيدة الأفق.
وعي الطبقة العاملة ونضالها يتطلبان بالدرجة الأولى التحرر من تلك الرواسب والانطلاق في مسار سليم لا تعرقله الوعورة.
ولكن التحرر من تلك الرواسب ليس كلمة تقال، وإنما يتطلب ترافق النضال السياسي بالنضال الاقتصادي نحو التصنيع، ونحو تغيير بنية المجتمع القبلية.. إنها مهمة صعبة، ولكن ضرورية.