النضج كوعي وممارسة الصراع
نقضي الفترة الأكبر من حياتنا في مرحلة النضج، وهي متفاوتة مع تفاوت الوعي والنضج العاطفي والإدراكي. صحيح أن هذه الفترة تعتبر الأكبر نسبة للسنين العمرية، ومن حيث ضرورة تحمل المسؤولية والعمل والإنتاج، ولكنها تختلف بين الجنسين وتختلف بين الأفراد ودورهم في المجتمع.
والتأثير الأكبر في هذه المرحلة هو للدور الاجتماعي للأفراد، الذي يختلف بحسب تقدم النظام الرأسمالي في المجتمعات، وبالمدى الثقافي، ومدى تحكم الدِّين فيه. وهنا نرى عدة منطلقات لتقييم ذلك، الاستقلالية المادية والقانونية للأفراد، عمر الزواج، العلاقات الاجتماعية، والشيخوخة أو ما بعد التقاعد الوظيفي.
الاستقلالية المادية والقانونية للأفراد
إلى الآن هذه الاستقلالية غير موجودة بالشكل التام، أو بالشكل الذي يسمح للأفراد بممارسة هذه الاستقلالية بشكلها الكلي. وهي تبرز في مجتمعاتنا أكثر من مجتمعات الدول المتقدمة، لضرورة الحفاظ على العلاقات العائلية، لكونها كما وصفها مصطفى حجازي ضرورة للبقاء والشعور بالانتماء. ومرتبطة أيضاّ بالوظيفة وعمر الزواج، كون العمل هو من ضرورات البقاء أيضاً، وضرورات المرحلة العمرية، وكون الزواج هو الدور الاجتماعي الأبرز في مجتمعاتنا. ونحن لا نقيم الزواج هنا، ولكننا نقول: إنّ الدفع إلى الزواج على أساس كونه أو توصيفه بدور اجتماعي لا يأخذ بعين الاعتبار لماذا يتم وعلى أيّ أساس ومدى نضج الفرد عند القيام بهكذا خطوة. ينعكس هذا في التشوه في العلاقات الزوجية والاجتماعية التي نعيشها، ضرورة الزواج لكونه يعبر عن دور اجتماعي مفروض، وفي الوقت نفسه يعبِّر عن حاجة نفسية وجسدية، والاصطدام بواقع الزواج من أولاد ومصاريف ووضع اقتصادي متردٍ. وفي التعبير الاجتماعي نعترف بما يسمى «جهلة الاربعين»، التي تبرر لنا سوء علاقاتنا الاجتماعية، ومدى قدرتنا على الاقتناع بالسائد في هذه العلاقات. أمّا التشوه الأكثر وجوداً هو للمرأة في هذه العلاقة وهذا الدور الاجتماعي، الذي صحيح أنه يتقدم مع ضرورة تقدم دور المرأة في المجتمع، ولكنه لا يزال يحد من دورها في الإنجاب والعائلة. والأبرز، هو: ارتباط هذا الدور بالمظهر الخارجي، الذي يجد اصطدامه مع العمر، وعدم القدرة على الإنجاب فترتفع الهستيريا الجماعية للنساء ويكون تبريرها الاجتماعي اليومي بأن لا أحد يمكنه فهم النساء. ولكن هذا الاتكال المادي والاجتماعي الذي تتربى عليه النساء، يؤدي إلى وصولهنَّ إلى حائط مسدود عند البدء بتفكك هذا الدور، أو عند البدء بخسارته، فيضعهن في موقع أضعف من حيث الاستقلالية والقدرة على الخروج من الدور المطلوب السائد، إلى دور يمكنه أن يؤسس لاستقلاليتهن.
وهذا ينعكس على باقي العلاقات الاجتماعية، على تعلق المرأة بأولادها أو بدورها الاجتماعي، وعلى تعلق الرجل بدوره الاجتماعي، وعلى إعادة إنتاج علاقات اجتماعية ملوثة. ولا تسمح هذه التركيبة بالنضج، أولاً: لأنها مشوهة ومركبة من حيث تطورها. وثانياً: لأن الوضع الاقتصادي والتنافسي لا يسمح للأفراد بالنضج بمرحلة متقدمة، وقد لا يسمح لهم أبداً بذلك. ففي هذه المرحلة التي تعكس المراحل التي سبقتها، تعكس أيضاً الفكر الليبرالي الذي تتربى عليه الأجيال، فتصطدم بعدم القدرة على تحقيق ذلك، وتحاول إيجاد مواقع أخرى، فتشوه هذه المواقع أيضاً.
الشيخوخة أو ما
بعد التقاعد الوظيفي
يعتبر المسنون والنساء من أكثر الفئات تعرضاً للاكتئاب في المجتمعات. والنساء لأنه من الأساس دورهن منقوص اجتماعياً ومحدود بعوامل الإنجاب والعمر، والمسنون لأنهم يخسرون دورهم الاجتماعي عند التقاعد. وقد يكون هذا العامل من المشاكل الأكثر بروزاً في المجتمعات، فتنعكس أمراضاً إما جسدية أو نفسية، وتنعكس أيضاً بإيجاد دور آخر أو المحافظة على هذا الدور. وكثيراً ما نجد المسنين أكثر اقتراباً من الماورائيات، وهذا طبيعي نسبة للعمر واقتراب نهايته، ولكنه ليس طبيعياً من حيث معناه الاجتماعي، لأنهم أصبحوا عاطلين عن أي إنتاج وأي دور يمكن له أن يستثمر دورهم في المجتمع.
كل مرحلة من عمر الإنسان معقدة أكثر من المرحلة التي سبقتها، لأن الدور الاجتماعي يكبر مع هذه المرحلة، ولكن النظام الرأسمالي لا يستغل إلّا المرحلة المنتجة بالنسبة له، والتي فيها يستغل عمر وروح الإنسان. وفي كل فترة زمنية أو تطور اجتماعي وسياسي يجب علينا مراجعة كيفية تطرقنا إلى المراحل العمرية، ومدى قدرتنا على عكس هذه المراحل بأزمات أقل وإنتاج أكبر. هذا ينطبق على إعادة التفكير بالهرمية الاجتماعية، ودور الفرد فيها، ودور المرأة، وكيفية انتقال الأفراد إلى مرحلة النضج بطريقة سليمة. هذه من المشاكل التي ستواجهها مجتمعات عدة، مثل: الصين، التي سيرتفع عدد المسنين فيها في السنوات القادمة نسبة لأعداد الشباب، وهذه مشكلة ستواجه الشعوب التي تعيش في حالة حرب، لأن نسبة الشباب فيها أقل، إما لارتفاع عدد الضحايا، أو لارتفاع نسبة الهجرة منها، ولأن إعادة الدور الاجتماعي يجب أن تشمل الجميع، لكونهم من سيقومون بإعادة البناء لهذه الدول.
يقول مصطفى حجازي: إن القهر ليس نتيجة الاستلاب النفسي أو الاقتصادي فقط، بل أيضاً نتيجة فقدان قيمة الإنسان بشكل عام. وإعادة القيمة هي التي ستؤسس لمجتمع أفضل يسمح لجميع المراحل العمرية بالتطور بشكل سليم وفعال.