عن عودة الأدمغة
جرت في السنوات الأخيرة عودة العديد من الاختصاصيين الصينيين إلى الصين، بعدما قدمت الصين شروطاً أفضل لمواطنيها الباحثين في الخارج من ذوي الاختصاصات لتشجيعهم على العودة
وبعدما فتحت الباب نحو التقدم العلمي والتكنولوجي في البلد جاعلة من هؤلاء أحد أعمدة هذا التقدم. هذا لأن الصين أدركت أن محاربة أية اعتداءات خارجية عليها كالعقوبات، والتحولات العالمية المحكومة بأزمة الرأسمالية العالمية، وبالتالي الإبقاء على نمو مرتفع من جهة والتحول في طبيعة الاقتصاد من ناحية أخرى يحتاج إلى جهود متعددة وكثيرة، خاصة في المرحلة الحالية التي ترتفع فيها التناقضات الاجتماعية الداخلية، لناحية الفروقات الاجتماعية بين الصينيين، التناقض بين المدن والريف، وأزمة الهوية التي بدأت تظهر عند الجيل الجديد مثلاً، والتي أشار إلى معالمها الرئيس الصيني في آخر مؤتمر للحزب الشيوعي الصيني.
هجرة الأدمغة
في بلد مثل لبنان، هجرة الأدمغة هو تعبير يرافق الإنسان منذ الصغر، في المدرسة، والعائلة، وعند اصطدامه بالبطالة والاقتصاد الريعي فالعديد لا يجدون أيّ منفذ للحياة إلّا من خلال الهجرة. ومن الممكن أن التركيبة السياسية والاقتصادية للبنان سمحت لهذه الظاهرة بالبروز بشكل وقح، ولكن هذه الظاهرة بدأت تظهر في العديد من بلدان المنطقة بشكل وقح أيضاً بسبب الحروب والأزمات الاقتصادية التي تضربها. وكما أن لهجرة الأدمغة شروطها وواقعها، فإن لعودة الأدمغة أيضاً شروطها وواقعها، وتحديداً في حديثنا عن نهاية الحرب، وعن التقدم إلى المرحلة القادمة من إعادة البناء، وتأمين حدّ أدنى من الصمود والتقدم لدول المنطقة ولباحثيها الحاليين والممكنين.
بالعودة إلى الصين، التي تعمل بطريقة أكثر خصوصية عن باقي دول العالم في خطط التقدم الاقتصادي والاجتماعي، فتحت الصين الفرص المتشابهة والمتفاوتة نحو التعليم والتخصص. واكتظت الجامعات بالطلاب، حيث العديد منهم حصل على فرصة التعلم في الخارج، أو بمعنى عملي أكثر، الحصول على خبرة علمية في الخارج والعودة بها إلى الصين. وهكذا، أدت هذه العودة مع الفرص المتاحة بتأمين المختبرات ومراكز الأبحاث والتمويل الضروري لها إلى النهوض السريع في العلوم مقارنة مع الدول الأوروبية، أو مع الولايات المتحدة الأمريكية. ولكن من المهم أنّ هذه الخطة رافقها نظام اقتصادي يسمح بهذه الآلية بالدوران داخل الصين، وبالتالي بالتطور داخله وعبره. ولقد ترافقت هذه الخطة- لعودة الأدمغة- مع فتح إمكانية التعلم والمنح الجامعية للأجانب في الصين، التي قدمت للصين العديد من الفرص على الصعيد الأكاديمي والتخصصي. حيث أدخلت فرصة تبادل الخبرات وفتح العلاقات مع صروح علمية أخرى من جهة، وتجميع المهارات والإمكانات العلمية، واكتساب خبرة من قبل الصينيين بالتعامل مع الطلاب واصطفاء القدرات منهم.
أما فيما يتعلق بمنطقتنا التي لا يمكن أن نقيس واقعها بواقع بلد مثل الصين، يمكن لنا أن نستخلص من الآلية التي اتبعت في الصين لمعالجة ضرورة التقدم السريع لأكبر نسبة ممكنة من الشعب. فعودة الأدمغة تحتاج إلى نظام سياسي واقتصادي يحمي هذه العودة، ويؤمن لها شروطاً أفضل من الشروط التي تتمتع بها خارج بلدانها. هذا النظام السياسي الاقتصادي الذي يجب أن يؤمن التقدم العلمي والاستقرار الاقتصادي، ويفتح المجال للباحثين بالإنتاج. ويجب أن يترافق مع خطة لتأمين عملهم، وهنا لا نتكلم فقط عن الإنتاج البضاعي أو العلمي، بل أيضاً عن الإنتاج البشري الاقتصادي ككل، أي: تلك القوى التي ستقوم بإعادة الحياة إلى طبيعتها وإلى آلية يُمكنها أن تخرج من عاش فترة حرب إلى حياة طبيعية. وهذه تحتاج إلى خطة صمود شعبية، هي أساس في إعادة البناء، ومستندة إلى إشراك أكبر عدد من البشر في خطة الصمود هذه. فبتأمين حسّ الانتماء إلى المكان وتقدمه، وحسّ المشاركة في هذا الانتماء والتقدم تنفتح الأبواب إلى عمل له معنى فردي ووطني عميق. وهكذا يرتبط البحث بالحياة الفعلية حاملاً هموم التقدم بها ومحكوماً بقوانين الحياة الحقيقية.