الثقافة السائدة ومفرداتها: حاضن المرض
مروى صعب مروى صعب

الثقافة السائدة ومفرداتها: حاضن المرض

من مخلفات التربية في النظام الرأسمالي هي: كثرة التخصصات وقلة المعرفة بالأمور العامة. فالإنتاج السريع والتسابق نحو التسويق والسيطرة على الأسواق، حَوّل العمال كجزء من عملية الإنتاج إلى متخصصين في عملية واحدة محددة من ضمن عملية الإنتاج الكلية، وأدى إلى خسارتهم المعرفة الكلية أو العامة بهذه العملية. خاصة مع فقدان العمال القدرة الشرائية للمنتجات التي يصنعون، وفقدوا معها أيضاً أهمية المنتج وضرورته في حياتهم، بسبب الطبيعة الاستهلاكية للمنتج في الرأسمالية. في هذا جزء من انعكاس المستوى العملي اليومي على المستوى المعرفي اليومي، حيث تنتقل المعرفة العامة في الأمور اليومية المعاشة إلى معرفة محدودة وضيقة.

يقول لوريا عن هذا، في محأولة بحثه عن سبب انتشار معاني ومفردات معينة في مجتمع ما تختلف عن مجتمع آخر: إننا نستخلص المفردات من الضرورة والعمل اليومي لاستخدامها لذا تسيطر مفردات ومعانٍ معينة على غيرها من المفردات التي لا تستعمل فلا توجد بالتالي. نلاحظ هذه الفروقات في المفردات بين المهن أو ميادين العمل، فتتدرج المفردات بحسب ضرورة الاستخدام اليومي التي بدأت تقل تدريجياً مع قلة ضرورات استخدام معانٍ جديدة أو مع قلة الممارسة التي تؤدي إلى ذلك.
دور العلم في خلق
واستخدام المفردات
كثيرة هي ضرورات المعرفة والمعرفة المتجددة، من ضرورتها في حركة ونشاط الدماغ وبالتالي الجسد، وإدراك ضرورتها لمعرفة أكبر بما يحيط بالإنسان وبنفسه كذلك. هذه المعرفة اليوم تحدد بالتعلم وبالمبادرة خارج النظام التعليمي لتوسيع دائرة ومصادر المعرفة، كون النظام التعليمي في خدمة آلية الإنتاج، التي تحكم بمعرفة أقلّ، حتى مع كثرة المواد والقوى الاجتماعية التي تتعلم. كما تحدد بسوق العمل وضروراته اليومية، كالمظهر والإنفاق والمعايير التي يجب أن يتمتع بها الأفراد. تنعكس هذه المعايير في مفردات– بغض النظر عن كثرتها أو غناها– محددة بسوق العمل وبآلية إنتاجه في التعليم، الإعلام، الصحة، وغيره. أما العلم: فيلعب دوراً في إدخال مفردات واستخدامها في الحياة اليومية، مثال: موضوع الصحة وما يجب أن نفعله في حال المرض أو للتخلص منه أو الحفاظ على صحة جيدة.
فمثلا، يعاني مرضى السرطان من غياب المفردات المرتبطة بالمرض، من ناحية ماذا يعني بروز هكذا مرض إلى كيفية التعامل معه، لكون السرطان بالتحديد مرتبطاً بالموت والجمود والمفردات المتعلقة بهما. ولانفصال العلم عن الحياة اليومية ما منع أو يمنع مفردات تتعلق بالأمراض وما تعنيه، وكيفية التخلص منها، من أن تكون متداولة، وبالتالي مساعدة لفهم حالة معينة تعاني منها شريحة كبيرة جداً وتتزايد مع الوقت. غياب المفردات المتعلقة بحالة حساسة تصيب، ليس فقط من يعاني من المرض بل أيضاً الدائرة الاجتماعية الصغيرة، أو المباشرة المحيطة بالمريض، التي تستعاض بمفردات أخرى لا بدّ منها لتبرير الحالة ولمساعدة المريض نفسه ومن يحيط به على تخطي القلق اليومي الناتج عن الحالة. فإما يلجأ المرضى إلى إنكار الحالة العامة وما يحيط بها من ألم وتعب، أو يستسلموا لما تقول به الجهات الطبية التي تتحكم بقرارها كمية الربح من العلاجات ومدتها بالإضافة إلى مستوى الحالة المرضية. لذا لا يربط معظم المرضى بروز المرض بكمية المواد الكيماوية التي ترتفع من الحرب أو الاحتباس الحراري أو التلوث، كما لا يربطونها بحادثة معينة وقعت بل إلى القدر «الذي أرادهم هم لاختبار» هذه الحالة التي توصف بأنّها «أسوأ ما يمكن أن يحدث لأي شخص»، إنه «اختبار لي لقياس قدرتي على التحمل». تنعكس قلة المعرفة بالمرض بالتحديد أو بكيفية التعامل معه إلى قلة إرادة في محاولة التعامل معه. وبدلاً من أن يكون المريض على بينة من العلاج وأيَهُ أفضل في أي حالة معينة، فإن عدم ارتباطه بحالته بالإجمال يمنعه من التدخل في علاجه ويشكل عنده معنى جديد لحالته وحركته وقدرته على العمل والحركة. هذه المفردات الجديدة التي تعتمد بشكل ليس سوى، كونها لم تؤسس بشكل سويّ، تقوده إلى خلق مفردات ومعانٍ جديدة عن حركته ونشاطه بالإجمال التي يحدها بنفسه أو يتعامل معها بحسب قدرته الجديدة على الحركة. وما يميز عوارض السرطان بالإضافة إلى التغيّر الكبير في الحركة اليومية، هو التغيّر الكبير أيضاً في المظهر، الذي يشكل صعوبة في كسر المفردات والمفاهيم السائدة حول المظهر. فمن أصعب ما يواجه المرضى هو فقدان الشعر، مشكلاً مظهراً غريباً عن الموجود العام غير مقبول ليس فقط لمن يعاني من المرض بل للمحيطين به.
هذه المعاني والمفردات تنبع من دور الفرد في المجتمع المفروض عليه القيام به، كالتركيز على الشكل والمظهر الخارجي حصراً، ومجمل مفاهيم الجمال السائد. من هنا يشكل المظهر عاملاً أساسياً، خاصة للنساء، في الحفاظ على الدور المرتبط بالمظهر من الناحية الأساسية والمرتبط بالموقع الاجتماعي للشخص الذي يرفض خسارة موقعه. وكون المعاني والمفردات مرتبطة بالدور الاجتماعي المحدد من قبل النظام السياسي السائد، أي: مجمل الثقافة السائدة حاملة المفاهيم والمفردات، يمنع مرضى السرطان من استخدام معانيهم ومفرداتهم الجديدة التي تكونت مع المرض، مثل: معنى المظهر والحركة في ظل مرض يقوم بتغيير كبير للنشاطات والقدرة اليومية والمظهر. والتي من ناحية أخرى فرض عليهم المرض الانطلاق من التعابير والمفاهيم السائدة المرتبطة بالمظهر والحركة والعلاقات الاجتماعية لتفسير التغيّر الذي طرأ على هذه العلاقات جميعها.