العلوم وملامسة الأسلاك الشائكة التاريخية دليل جديد
يبدو أن التوتر، الذي سبق وأشير إليه سابقاً بين الإدارة الأمريكية والمجتمع العلمي في الولايات المتحدة الأمريكية، في تفاقم متزايد، والشرخ ما بين الطّرفين يسير إلى التوسع. فبعد تخفيض التمويل عن عدة مؤسسات ومعاهد بحثية أمريكية، إضافة إلى “الاستهتار” والمماطلة في التعيينات والتعثّرات التي طالتها في مواقع علمية مختلفة في الولايات المتحدة من قبل الإدارة الأمريكية الحالية، ها هي الأزمة تصل إلى ميدان جديد هو “اندماج الطاقة”.
“الخبر ظهر كالصاعقة من السماء الزرقاء”
هذا كان اقتباساً من مقال صدر خلال هذا الأسبوع في مجلة “علوم”(“العالمية”) إيّاها على موقعها الإلكتروني، تحت عنوان “العلماء في سباق لإنقاذ الليزر البحثي الذي استهدفه (الرئيس) “ترامب” بالإغلاق”. وحسب المقال: إن “أوميغا” هو ليزر بحثي في جامعة “روشيستر” في نيوروك، وهو كصرح “أيقونة” (عمره حوالي الـ23 عاماً) في أبحاث اندماج الطاقة.
القرار بتخفيض التمويل يعني الإقفال الكلي للمعهد خلال السنوات الثلاث القادمة، والذي يعتبر مركزاً مهما في القيام بالأبحاث العلمية والتدريب لطلاب الدكتوراة إضافة إلى كونه إطاراً لتنفيذ بحوث في قضايا الطاقة المكثفة. المعهد كان لعدة سنوات (1999-2005) رائداً في هذا المجال، إلى أن تقدّمته المنشأة الوطنية للاشتعال(National Ignition Facility)(كاليفورنيا) ولكنه بقي يقوم بـ 80% من العمل في الميدان حسب كامبل ميشال كامبل، مدير مختبر الليزر الطاقوي (LLE) المشغل لليزر أوميغا.
المعنى الاستراتيجي للقرار “المسبب لخطر شديد”
ليزر أوميغا، إضافة إلى كونه إطاراً للبحث في دور الليزر بموضوع اندماج الطاقة، فإنه أيضاً مضطلع في برنامج إدارة المخزونات التابع لإدارة الطاقة، والمعني بتقييم موثوقية مخزون السلاح النووي للولايات المتحدة، وإخراجه من العمل هو “غير منطقي بما خص الرؤية بعيدة المدى حول عمل إدارة المخزون” كما علق “كامبل” (مدير المعهد المشغل لأوميغا) الذي قال: إنه لم يحدث أي نقاش مسبق حول الإقفال، وأنه لم يتم استشارتهم قبل القرار، كما اعتبر “ريتشارد بيتراسو” من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا_ الأهم في أمريكا، في رسالة أرسلها إلى الجهات الرسمية: إن اقفال المعهد سيؤدي إلى “نتائج كارثية لا رجعة فيها للحفاظ على سلامة وموثوقية مخزوننا النووي”.
تضامن “أوروبي”
في سياق ردود الفعل حسب المقال، وإضافة إلى الزيارات المتكررة التي يقوم بها المسؤولون في جامعة “روشيستر” إلى العاصمة واشنطن، لإقناع أعضاء الكونغرس بالعدول عن القرار، فإن حالة اعتراض طالت عدة باحثين من عدة جامعات كون إقفال أوميغا سيؤثر على برامج التدريب والبحث في تلك الجامعات.
ولكن الاعتراض شمل أيضاً واحداً وخمسين باحثاً من أوروبا وقعوا على رسالة لسكرتير الطاقة، مضمونها حول أهمية ليزر أوميغا البحثي على مستوى العالم، ويشكل أهمية لمختبرات أوروبا كما لمختبرات الولايات المتحدة الأمريكية، ويدعون فيها الإدارة الأمريكية إلى التراجع عن القرار.
ليس حادثاً عابراً بل خطاً عاماً
هذا الحدث، كما سابقه، لا يشكل على أهميته حدثاً معزولاً عن السياق العام للتطورات التاريخية العالمية وللولايات المتحدة كمركز لرأسمال العالمي المأزوم. هو من جانب يؤكد على سياسة خفض الإنفاق (ومنها مثالاً: التراجع عن السياسة الصحية التي أقرها الرئيس السابق_ أوباما) كجزء من الأزمة المالية، ومن جهة أخرى يؤكد على العقل الرجعي الرأسمالي الذي طالما تم الترويج له أنه علمي بامتياز، ومشجع للبحث والعلوم والاكتشاف والتطوير والخلق والإبداع، حيث تعجّ الأفلام والأخبار والدعاية الرأسمالية بأن الغرب موطن العلوم وقائدها، بينما هو فعلياً يوظف العلوم في صالح السياسة الاستعمارية الحربية بشكل أساس، أو للربح المالي، ويمارس العدائية (حرباً اقتصادية_ كما المقال المذكور، وأيديولوجية دعائية لشيطنة العلم كحالة التكنولوجية الذكية) تجاه العلم، والجديد إذا ما تعارض مع مصالحها (لسنا نتضامن مع مخزون السلاح النووي الأمريكي طبعاً).
خدعة تقديم الرأسمالية نفسها خلال القرن الماضي، وبداية الحالي، أنها مهد العلوم تنجلي بوضوح، حيث إن العامل الأساس فيها كان بدوافع سياسة الاستعمار والحروب كتطور الاتصالات والتقنيات الحديثة والفضاء والنقل... وخصوصاً بروز خصم قوي كالاتحاد السوفيتي وقتها، والذي قام بنفسه بتسارع علمي كبير والذي ساهم بفرض ضرورة تطوير العلوم في المعسكر الإمبريالي، إضافة إلى تشكيله خطراً على وجود هذا المعسكر، وبالتالي شكل واقعاً موضوعياً لتطوير الأسلحة الفتاكة الأمريكية من أجل ضربه، وهي ما شكلت بدورها أرضاً لتطوير ميادين علمية هامة منها: العلوم النووية والفضائية_ الجوية...
الحدود التاريخية بالملموس
هذا الظهور المباشر لواقع معاداة الرأسمالية (في مراحل تعفنها) وكبحها لقوى الإنتاج في حالة العلوم، الذي وصل إلى مرحلة التدمير المباشر لهذه القوى المنتجة (كما في تدمير المجتمعات والحياة على الأرض ككل)، تدعيم لطرح وصول النظام الرأسمالي لمرحلة حدوده التاريخية، في سياق الصّراع الفكري (بين قوى اليسار تحديداً) حول طبيعة هذه المرحلة. وما يجري في العالم اليوم هو: انفجار هذه الحدود صراعاً، لاستكمال إزالة الأسلاك الشائكة التاريخية.