العلم الرسمي.. مسلَّمات و تيه
في العصر الحجري ( 5000 ما قبل الميلاد) كان البشر يستخدمون نقب الجمجمة لمداواة بعضهم من الأمراض النفسية والعقلية، فكان يعتقد أنه بنقب الجمجمة، ستخرج الروح الشريرة التي تفتك بالمصاب. الذي اصبح يسمى “نفسياً” منذ قرن ونصف تقريباً، وتداخلت فيه اتجاهات علم النفس التي صبت جميعها في اتجاهين: إما المادي، أو المثالي.
حملت بينة العلم ما قذفته هذه السنين من تطورات سياسية، وبالتالي علمية، وحضنت نقيضين، إنها محكومة بالتقدم في حركة التاريخ، وفي آن أنها محكومة بالبقاء الأيديولوجي تحت رحمة القوى السياسية المسيطرة عليه، الراسمالية. هذا التناقض الذي يدفعها إلى الحفاظ على مستوى متدنٍ في الأداء مقارنة مع حاجات العالم اليوم، كعلم يشكل أداة من أدوات تخليص العالم اليوم من معاناته. وحمل معه مطلقات علمية بنصرة المثالي على المادي، كون حامله السياسي رأسمالياً، وتناقضات أكبر من قدرته على حلها انطلاقاً من فكره المثالي.
ما جعل علم النفس في تطور مراحله خاضعاً لتقلبات التطورات السياسية في العالم، وما وضعه مؤخراً في يد القوى التي سيطرت في العقود الأخيرة كقطب أوحد، الرأسمالية. فلقد أعادت الرأسمالية علم النفس إلى نقب الجمجمة، وأضافت إليه نقب النفس ومنبهاتها لإخراج شخصية «سَويّة» و»سليمة» في المجتمع. في هذه العملية غلب الاتجاه المثالي على المادي، فغلبت الفرويدية على علم النفس، وجعلت له مسلمات ومطلقات جاهزة عند الفعل وردة الفعل في حالات معينة. فاجتاحت العديد من نظريات علم النفس_ في الميادين كافة_ مسلمات في أسباب أي عارض نفسي، واحتلت الغريزة_ السيئة دائماً_ الحكم في طرد أي لاعب من الملعب، أو إعطائه بطاقة صفراء. بينما العامل الجيني، هو من يمتلك رأس المال، ومن يبيع ويشتري اللاعبين خلف الكواليس. وبالتالي، أصبح لعلم النفس مسلمات لا يمكن المحاججة بها. وتم إسقاط هذه المسلمات على حياتنا اليومية، فإذا تعثرت حياتنا من أي سبب اجتماعي، أو قادتنا الضغوطات اليومية مثلاً إلى الأرق، فقد يكون العامل الجيني هو السبب، ولا يمكننا فعل أي شيء أو ربما قد ينفعنا التأمل (اليوغا)، بحسب هذا المنطق، في تفريغ السلبية التي نعاني منها بسبب جيناتنا «السيئة».
تشكل العلوم مادة دسمة في القرن الحالي. تعتبر من قبل بعض روادها مصدر الحقيقة المطلقة، بغض النظر عن آلية بحثها وأساسها الفكري. فقد عملت آلة الترويج الغربية على ضخٍ سخيفٍ للعلوم في ميادين عديدة لتكسبها صفة الحقيقة، ولكنها أسقطت عنها دورها في إيجاد الحلول وألبستها ثوب اللّغز المبهم. فبعد قرن ونصف من البحث في علم النفس يعتبر علم النفس السائد: أن النفس البشرية مبهمة ولا يمكننا فهمها.
فمن المؤسف أن تتعاطى الصروح العلمية مع العلم بعد قرون من نهوضه المنهجي، على أنه تجربة يومية علينا يومياً اكتشافها والخوض في تفاصيلها مجدداً. حتى لو كان هذا المؤسف «طبيعياً» في ظل الرأسمالية، فبالرغم من قيام النظام الرأسمالي بتطوير العلوم، كون تطويرها جاء حكماً مع تقدم حركة التاريخ، فإنه غير قادر على الخروج من نفق التجريبية في تعاطيه مع البشر، وما يربط حياتهم جميعه. ومن المؤسف، أن هذا التعنت يلف حبل المشنقة حول رقبة العلم لا يزال يجد من يؤيده. فقد حاجج الاتجاه المادي في علم النفس مثلاً على مسلمة وحيدة، وهي: تأثير البيئة التي نعيش، في تشكيل وعينا ونفسيتنا، التي تتغير مع تغير الزمان والمكان والظرف.
الأبحاث الأكثر
قراءة في عام 2017
من أكثر الميادين البحثية التي تُبحث اليوم هو: الفرق في الأداء المجتمعي بين الجنسين. كان لبحثين في هذا المجال مركزاً بين الأبحاث العشرة الأكثر قراءة لعام 2017. التي خلصت نتيجتهما إلى: أنه من غير المعروف لماذا يموت المرضى لدى الأطباء النساء بنسبة أقل من المرضى لدى الأطباء الرجال_ ولكن من المعروف أن هذا ما يحصل من خلال عيّنة البحث، وأن للفروقات في كيفية تربية البنات والبنين تأثيراً سلبياً على مستقبل علم واتجاه عمل البنات. تقوم أرضية البحثين على أن الفروق بين الجنسين إما في العلاقات الاجتماعية، أو في التربية، هو فرق جيني وذكوري سلطوي. أي أن البشرية بعد عقود من عمرها لا زالت تبحث في مواضيع اجتماعية من أرضية فكرية مطابقة للأرضية الفكرية التي بدأت البحث بها عند ظهورها، التجريب، لعلنا نجد الحل.
القول بأزمة العلوم اليوم هو الصيغة العامة التي تعيشها مختلف الميادين العلمية، المحكومة بفكر وبنية رأس المال، فالرأسمالية في مرحلة صيرورتها ضد التقدم التاريخي، ومدمرة للمجتمع في آن، لا يمكن لمن يعيش في أحضانها الفكرية والنفعية أن يكون منتجاً، فهذا عكس قانون وجوده غير التاريخي اليوم التي تعيشه الرأسمالية.
العلوم كميدان منتج فكري وعملي، تنتمي موضوعياً إلى التقدم، والتقدم اليوم هو بتجاوز الرأسمالية، فيكون للعلوم أرضيتها الموضوعية اقتصادياً وفكرياً في خوض معركة النهوض بالإنسان والمجتمع على امتداد الأرض واتساع الكون.