كارثة الفوضى الملحية

كارثة الفوضى الملحية

تسمى الفترة التي تلت التصادم بين أفريقيا وأوراسيا والانغلاق المتوسطي الذي حدث في نهاية المتوسط بكارثة الفوضى الملحية. وكانت من أهم الأحداث الجيولوجية المذهلة في العالم خلال كامل العصر السينوزوي، عندما جف البحر المتوسط بشكل كامل تقريباً، وأصبح صحراء فيها بعض البقع المتفرقة من البحيرات فائقة الملوحة. 

حدثت هذه بدءاً من حوالي 5.96 مليون سنة وانتهت فجأة بعد ذلك بحوالي 63000 سنة لاحقاً، منذ 5.33 مليون سنة، وقد عرفت هذه الحادثة التاريخية حديثاً جداً. حيث وجدت لقيات ملحية ضخمة جداً من السرير البحري أو «المبخرات» في مكانها على عمق 1500 متر قرب صقلية، كالابريا، وشمال أفريقيا وقد جذبت الباحثين منذ زمن طويل، ولكنها لم تحدد محتويات هذه اللقيات الكثيفة حتى أوائل السبعينيات عندما استخدم الفريق العالمي للبحث طرق حفر للبحر العميق إبداعية. 

القبب الملحية

وجد الباحثون أن كل «القبب» الملحية لا تحتوي على كلور الصوديوم فقط، ولكن على العديد من المواد الأخرى الناتجة عن التبخير مثل تلك الموجودة حالياً في البحر الميت. وهي تتضمن كذلك بقايا مستحاثية من الطحالب بسيطة المتطلبات (البكتريا الزرقاء)، مثل تلك التي نلحظها حالياً في المياه الضحلة. وهو ما يثبت أن المتوسط قد جف بشكل كامل إلى هذا الحد أو ذاك خلال كارثة الفوضى الملحية، وهي فترة وجيزة لكنها حاسمة في صنع عالم المتوسط. وقد تم صنع نموذج يمثل المرحلتين الرئيسيتين في ترسب نواتج التبخير التي أثرت على التوالي في كامل الحوض. ولكن مع انزياح زمني طفيف بحيث تتناسب مع كل المعطيات الزمنية. وقد قيد توزع مناطق التبخير وتوقيت ترسيباتها بالدرجة العالية للتمايز الجغرافي القديم وبالتأثيرات الحاسمة التي حكمت تبادل المياه. 

مناطق التبخير

تضمن الكارثة مرحلتين مختلفتين: الأولى (مناطق التبخير المنخفضة) والتي تضمن ترسيب وحدات هاليت متجانس كثيف مع أسرة في أعمق الأحواض، ووجدت في العصر الجليدي بين ستة و5.6 ملايين سنة، والمرحلة الثانية (مناطق التبخير المرتفعة) والتي تتوافق مع فترات الدفء وارتفاع مستوى سطح البحر العالمي بين 5.6 و5.5 مليون عام خلت.

لا يمكن سباحتها

وللمساعدة على فهم كارثة الفوضى الملحية، من المفيد الإشارة إلى أن معدل خسارة المياه الحالي الناتج عن التبخر من المتوسط هو 4500 كيلومتر مكعب سنوياً ويمكن تعويض عشرة بالمئة منه فقط عن طريق الهطول المطري وتدفق الأنهار. والتسعون بالمئة الباقية يجب أن تأتي من المحيط الأطلسي من خلال مضيق جبل طارق الضيق (14 كيلومتر، بعمق ثلاثمائة متر)، حيث تتدفق التيارات من المحيط الأطلسي بقوة لا تتيح العبور حتى للسباح المتمرس. 

جف في ألف عام

دون هذا العبور للمياه عبر مضيق جبل طارق، كانت مياه المتوسط ستنخفض بمعدل يزيد عن متر سنوياً. ولذلك فمن غير المفاجئ حينما كانت المضائق مسدودة بشكل مؤقت، حيث الظروف المناخية السائدة في البليوسين الأدنى أدفأ بكثير من الوقت الحاضر، أن تكون ألف سنة كافية ليجف قعر المتوسط.

براكين جديدة

وقد كان لكارثة الفوضى الملحية آثار على قشرة الأرض على الشواطئ الشمالية والجنوبية للمتوسط. حيث انفتحت شقوق هائلة، وزلزلت الهزات الأرض، واستعادت البراكين القديمة نشاطها، بينما ولدت براكين جديدة. 

وفوق هذه المسطحات فائقة الملوحة تحولت العديد من المناطق الساحلية إلى جزر أو «هضاب» منعزلة، تعلو آلاف الأمتار فوق المسطحات متزايدة الملوحة. 

أودية ضخمة

وبالوقت نفسه استمرت الأنهار العظمى كالنيل والرون في تغذية المتوسط الجاف تقريباً، مصيبة المنحدرات العالية حافرة بالتدريج في الأودية العميقة في سمك قشرة الغرانيت وكتل الحجر الكلسي في حواف البحر. 

يتربع مثل هذا المنحدر على بعد 900 متراً تحت سطح البحر في مصب نهر الرون قرب مرسيليا، كما يوجد مثيله تحت الأرض على عمق 2000 متر تخت القاهرة، والذي يقبع بحد ذاته على بعد 1 كلم في البر وصعوداً من دلتا نهر النيل قرب الاسكندرية.

شلالات عملاقة

بدأت منذ حوالي 5.3 مليون سنة، عدد من الرجفات التكتونية التي هزت المنطقة من جديد، كاسرة فتحة الجسر الأرضي بين المغرب واسبانيا، متيحة لمياه الأطلسي العبور ثانية عبر مضائق جبل طارق. 

وبسبب الجفاف الذي سببته كارثة الفوضى الملحية، أخذ هذا الانبعاث شكل شلالات عملاقة على ارتفاع 3000-4000 متراً بمسقط يقارب خمسين ضعف شلالات نياغارا.

امتلأت في مائة عام

ضخ فيها يومياً 65 كيلومتر مكعب من مياه البحر، ما كان كافياً لملء الحوض بأقل من 100 عام. وعقب هذا «الفصل» لمضائق جبل طارق وامتلاء الحوض من جديد، فقد استقر شكل وحجم المتوسط اليوم، وميزاته الطبوغرافية والجيومورفولوجية، منذ خمسة ملايين عام.