المعارف الطبية ما بين النهرين
مما لا شك فيه أنَّ علم الطب من أوائل المعارف والعلوم التي عرفها أو مارسها الإنسان منذ القديم، عن غريزة ورغبة منه في التخلص مما يعانيه من الألم، فسعى ذلك الإنسان جاهداً ليبحث عن كل ما يحفظ صحته وسلامته، خوفاً من الوقوع في هاوية المرض، وتوصل إلى بعض العلاجات النافعة عن طريق الصدفة وتكرار التجربة حيناً، أو من خلال تقليد ما تفعله الحيوانات حينا آخر وامتزج الطب في تلك الأيام الغابرة بالدجل والشعوذة.
تبادل الخبرات
عاصرت حضارة بلاد ما بين النهرين الحضارة المصرية القديمة، وكان الطب من أهم مظاهر هذه الحضارة، وقد ذكر هيرودوت Herodote أنَّ البابليين والآشوريين القدماء كانوا يضعون مرضاهم في الساحات العامة خارج المدن، لغرض عرضهم على المارَّة لكي يتصلوا بهم للاستفسار عن مرضهم، فمن كان منهم قد أصيب بمثل هذا الداء وشفي منه، أرشد هذا المصاب إلى استعمال الوسائل نفسها من الأدوية التي أدت إلى شفائه.
وكان الطب في أول عهدهم بسيطاً ومحدوداً وساذجاً، يعتمد على التمائم والرقى، ويكاد يكون من عمل الكهنة وحدهم. وبمرور الزمن بدأ يأخذ ميداناً مستقلاً، إلى أن نشأت عندهم مهنة الطب، وكان الطب البابلي تجريبياً بحتاً، وكان يلعب دوراً أقل أهمية من مزاولة السحر في شفاء الأمراض.
الطب في قانون حمورابي
أما فيما يخص تاريخ الطب في بلاد ما بين النهرين، فإنَّ أقدم الكتابات الطبية تعود إلى الألف الثالث )ق.م( ، وانَّ أقدم وثيقة قانونية تتعلق بالطب البابلي، هي ما جاء في قانون حمورابي.
أما بالنسبة لطرق العلاج فقد عُثِرَ على نصوصٍ مسماريةٍ تقولُ: إنَّ سكان بلاد ما بين النهرين استخدموا النفط في مجالات الطب، واستخدموا القير في معالجة القروح ومعالجة الالتهابات والأورام بعد خلطه بالكبريت، واستخدموا النفط لشفاء بعض الأمراض الجلدية للإنسان، وكذلك الحيوان، زيادة على ذلك تم الاستفادة منه في علاج بعض أمراض المفاصل والفالج وبياض العين والماء النازل فيها. أما الآشوريون فقد استخدموا القير كعلاج لتطهير الجروح وقد اهتم البابليون بالتشريح وأولوا اهتمامهم بأمراض القلب والكبد، وقد استخدم الأطباء المسكرات في العلاج، مثلما عالجوا بالمس، وعرفوا الجراحة، واستخدموا الحشيش والأفيون للتخدير عند إجراء العمليات الجراحية، وقد ظهرت اللوحات التي اكتشفها السير هري لابارد سنة 1849م في مكتبة آشور بانيبال في خرائب مدينة نينوى العديد من الوصفات الطبية، التي كانت سائدة في ذلك العصر، كما توجد في قانون حمورابي مادة مفادها محاسبة الطبيب والموظف الذي يهمل عمله ، وبيَّنت لوحة حمورابي ست فقرات متعلقة بدستور مهنة الطب آنذاك ، فنظمت صناعته وجعلت المسؤولية تقع على عاتق الأطباء، عندما يرتكبون الأخطاء بحق المريض، وكذلك فرضت عقوبة عمى المرضعات اللاتي يُقصرنَ في عناية الأطفال الرُضَّع المعهود إليهن بالعناية، مما يؤكد أنَّ هذه الشعوب كانت تدرك مسؤولية الطبيب الإنسانية نحو مريضه، وضرورة الاهتمام بعلاجه والاعتناء به.
وسائل العلاج
ويمكن حصر وسائل العلاج في ثلاثة وسائل:
أولها: العلاج الطبي بالعقاقير والتمريض.
وثانيهما: العلاج بوساطة العمليات الجراحية.
وثالثهما: الرقى والتعزيم لطرد الأرواح والشياطين.
وتشير النصوص المسمارية التي عثر عليها في العراق مطلع الألف الثاني )ق.م) برموز، إلى عدد من الأطباء والجراحين ومجبري العظام والبياطرة وأطباء العيون، وقد أشارت إلى بعضهم قوانين حمورابي، كما كان الأطباء على مراتب مختلفة، حيث كان منهم كبير الأطباء أي (المسؤول عن الأطباء) وكانوا يرتدون ملابس خاصة بهم تميزهم عن غيرهم ، وكان لهم آلاتهم وأدواتهم الخاصة، وكان الطبيب المختص في علاج العيون له دور بارز، إذ كان يستخدم في حالات الرمد المنتشر في هذه الأقاليم نوعاً من المراهم للعين، مكوناً من نباتات تطبخ في الدهن أو خلاصة النحاس الخام في الجعة، وأما المصاب بالإمساك فيعطى مزيجاً من مركب النباتات المطبوخة تشرب بالجعة. وقد استخدم في دستور الأدوية كل أنواع العناصر، سواء أكانت من أصل معدني أم نباتي أم حيواني، كما أنَّ روث الغزال لم يكن أشد ما تتقزز منه النفس، وكان بعض الأطباء يتمتعون بتقدير كبير.
كل داء يعالج بنبات أرضه
وإذا كان فهمهم لمصدر الداء هو اختلاط أجسام روحانية شريرة بأجسام البشر، وعدم الملائمة بين هذين النوعين، إلا أن تفكيرهم في العلاج وفي تركيب الدواء لا يكاد يختلف عن مبادئ حكماء اليونانيين وأطبائهم، الذين قالوا: (كل داء يعالج بنبات أرضه، وما نادى به اليونانيون لا نزال تراه مطبقاً إلى حد ما حتى الآن. وهكذا كان أطباء البابليين يبحثون عن الدواء في أعشاب أراضيم وحيواناتهم، فهم وإن أخطؤوا التقدير في مصدر الداء فقد أصابوا في اتجاههم نحو تركيب الدواء، وعرف السريان طب أبقراط، وجالينوس ومارسوه عدَّة قرون، وترجموا كتب الطب اليونانية ،لكن علمهم بهذا الطب ظلَّ على ما هو عليه طوال تلك القرون.