«البحث» عن الحقيقة..
«إن كانت الوثائق في كل مكان متشابهة تماماً.. ستضيع عندها الكذبة بين ثنايا التاريخ .. وستصبح هي الحقيقة» – جورج أورويل – 1984
تعد مجلة «العالِم الجديد» –بكسر اللام- من أحد اشهر الدوريات العلمية، وقد اعتادت على الدوام تقديم الجديد في العديد من مجالات الابتكار العلمي والبحث التكنولوجي، لكن مقالاً أخيراً أوردته المجلة قد حصد مقداراً غير مسبوق من الاهتمام بعد أن كان عنوانه كافياً للحكم على طبيعة ما يحتويه، فقد أوردت «العالم الجديد» مقالاً دسماً كتبه الصحفي وعالم الفيزياء الفلكية «هال ودسون» بعنوان: « شركة جوجل: نحو إعادة ترتيب إظهار المواقع بناء على مصداقيتها»، ويبدأ المقال بالتصريح التالي: «هناك العديد من التفاهات التي تحشو صفحات الشبكة العنكبوتية العالمية، وهي تتصدر نتائج البحث لأنها ببساطة أكثر شعبية على الرغم على احتواءها العديد من الأكاذيب والأخبار المخالفة للواقع، لذا قررت شركة جوجل تصنيف نتائج البحث الخاصة بها بناء على» مصداقية «الموقع بدلاً من» شعبيته «كما هي الحال الآن»، وعلى من يملك بعض الخلايا الدماغية السليمة أن يتوقف عن قراءة ذلك المقال لبرهة ويسأل نفسه: ما هي المواقع التي تراها جوجل «صادقة»؟ من سيكون الحكم في ذلك؟
التجسس لصالح الحكومة الأمريكية
فلنعد قليلاً إلى الوراء، لقد بدأ العملاق الأمريكي جوجل كإحدى الشركات التقنية المغمورة أواخر القرن الماضي، لكنه استطاع وفي زمن قياسي تحقيق نتائج باهرة دفعت بمنافسيه إلى الوراء وبعنف، فاعتمد على خوارزميات بحث خاصة استفادت من مفاهيم رياضية رائدة طورها مهندسو جوجل الأوائل، كانت نتائج البحث أكثر سرعة ودقة، ووجد الجميع ضالتهم في هذا الموقع الجديد الذي يتيح لمشتركيه واجهة بحث بسيطة لا تحتوي إلا على مربع صغير يطلب منك كتابة ما تريد البحث عنه لا أكثر، في الوقت الذي كانت فيه المواقع المنافسة تملأ شاشتك بالإعلانات الفارغة والنوافذ المنبثقة لتستقبل الباحث الضائع بمزيد من الضياع، كان واضحاً بأن مستقبلا باهراً ينتظر هذه الشركة المميزة التي امتلكت بلا شك رؤية خاصة في التصميم ومنهجاً محبباً في التعامل من مشتركيها، وهذا ما حدث وها هي اليوم الشركة التقنية الأولى في صناعة البرمجيات الخاصة بالأجهزة المحمولة وصفحات الويب وصناعة الروبوتات وأجهزة الترفيه المحمولة وغيرها من الأمور، وحرصت دائماً على الحفاظ على صورتها البسيطة القريبة من قلوب المستخدمين، لكن ذلك الأمر لم يدم طويلاً، حيث شهدت السنون الأخيرة عشرات الدعاوى اتهمت فيها «جوجل» بالتجسس لصالح الحكومة الأمريكية وبيع أسرار مستخدميها لشركات التسويق الكبرى، لتنضم إلى قائمة طويلة حوت «فيسبوك» و «تويتر» و «أمازون» و غيرها الكثير، وأصبحت الحكومة الامريكية المتهم الأول في قضايا تجسس عالمية عن طريق تلك الأدوات بعد أن فضحت العديد من الوثائق المسربة صحة تلك القضايا، لذا عندما يعلن محرك البحث «جوجل»، العميل الرقمي الأكثر نشاطاً لوكالة المخابرات الأمريكية، بأنه سيبت في «مصداقية» الموارد المعرفية على الشبكة، سنجد العديد من الأصوات التي تستهجن ذلك..!
مصداقية الموارد المعرفية على الشبكة..!
دعونا نمنح «جوجل» فرصة لشرح هذه التقنية الجديدة، حيث يتابع «هال» مقالته موضحاً: «يعمل فريق جوجل على تطوير نموذج برمجي يقيس مدى مصداقية أي موقع، بدلاً من تعداد مرات الدخول إليه من قبل المشتركين وبالتالي مدى شعبيته على الشبكة، وسيقوم هذا النموذج فوراً عند الانتهاء من تطويره بإحصاء عدد مخالفات الموقع للحقائق، وبالتالي سيتم وضع الموقع الذي يحوي أقل عدد من المخالفات على رأس قائمة البحث، على ان تتم عملية التحقق من المخالفات عن طريق مقارنة المحتوى الرقمي بـ «مستودع» رقمي من الحقائق تصممه جوجل، يحتوي بداخله على جميع الحقائق التي يتفق على الجميع بعد أن تم تصنيفها وتدقيقها وفق مختلف مجالات البحث»، يمكن للمرء هنا تخيل محتوى ذلك المستودع على ضوء العلاقة «الوطيدة» التي تجمع «جوجل» بالحكومة الأمريكية، ربما ستجد روايات لا تصدق عن أحداث الحادي عشر من أيلول، ستجد صوراً عن «حروب الحرية والديمقراطية» في العراق وأفغانستان، لا قصص عن لقاحات فاسدة وزعتها الحكومة الأمريكية على دول العالم الثالث، ولا ذكر لأي مقالة علمية قد تلمح لذلك، لن يتحدث أحد عن أزمات الاقتصاد الرأسمالي الحادة وأسلوب الإدارة المشوه، إعلانات التسوق ستسبق روابط الكتب لتحل محلها في نتائج البحث الأولى، ستقرر «وزارة الحقيقة» الأمريكية ما عليك أن تعرفه عن كل شيء، هذا ما تنبأ به «جورج أورويل» في روايته الشهيرة «1984» منذ سنين عديدة، ويبدو بأن الحديث عن وجود مثل تلك «الهيئة المعرفية المتسلطة» أصبح أمراً واقعاً بعد أن اعتبر حتى وقت طويل ضرباً من السخرية المرة.
الهيئة المعرفية المتسلطة
يعني الاسم «جوجل» رقما كبيراً للغاية، واحد تليه مائة صفر على يمينه على وجه التحديد، وهي حقيقة تسوقها الشركة دائماً لتعلن بأنها تمنح الباحثين على الدوام عدداً كبيراً من النتائج، لكنها اليوم قد «تدفع» بالحقائق التي يود الباحثون العثور عليها إلى مكان بعيد قد تلمحه بعد تصفحك النتيجة المليار إن حالفك الحظ، لكن، ما هي الحقيقة وما هي الكذبة أساساً؟ هل أنت متأكد من وجهة نظرك؟ انظر جميع تلك المواقع الإخبارية جميعها والمقالات الصحفية والمراجع التاريخية التي تخالفك الرأي والتي تتصدر صفحات النتائج الأولى؟ ألا يجدر بك أن تصغي إليها قليلاً؟ قم