بين «هيروشيما» و«البصرة»..
احتضنت الأم طفلها بشدة، حاولت أن تضمه إلى صدرها على الرغم من الأنابيب الكثيرة التي تحيط بجسده، لم تقو عيناها على تصديق ما يحدث، كيف يمكن لصبيها الجميل أن يتحول في غضون أيام إلى هذا الجسد النحيل الهش الملقى هنا، اختنقت الدموع في حلقها فتنهدت بحرقة وهي تستمع إلى تشخيص الطبيب: « لن يعيش ابنك طويلا يا حجة.. ودعيه وخففي عنه ألمه.. وجدنا فيه نسباً مرتفعة من التلوث الاشعاعي.. حالك كحال الكثيرين هنا في البصرة يا خالة.. فليكن الله في عونك..» التفتت الأم إلى الفتاة «الغريبة» التي لم تفارقها منذ إدخال ابنها إلى هذا المستشفى، أطرقت الفتاة إلى الأرض وهي لا تدري ما تقول، نهضت بصمت والتقطت بعض الصور للصغير الممدد على السرير، إنها الناشطة اليابانية «هاروكو موريكاتي» ، وهي ليست بـ«الغريبة» أبداً عما يجري هنا.
يذكر العالم ما جرى في مثل هذا الصيف من العام 1945، حلقت قاذفات «بي - 29» الأمريكية فوق اليابان وألقت قنبلتين ذريتين فوق مدينتي «هيروشيما» و «ناغازاكي»، لتتحولا في غضون لحظات إلى آتون مشتعل لم تشهده البشرية من قبل، لن تستطيع الكلمات وصف بشاعة ما جرى، «تبخر» مائة الف ياباني في «هيروشيما» وحدها خلال اللحظات الأولى من الانفجار، ثم تلتها موجات متلاحقة من الدمار أشعلت كل شيء، مائة وخمسون ألفاً آخرون قتلتهم الجروح والاشعاعات قبل أن تنتهي تلك السنة السوداء، لكن الموت لم يهجر ذلك المكان حتى الآن، بقيت الاشعاعات تقتل الأجنة في الأرحام وتشوه من استطاع الحياة، فنيت المزروعات ونفقت المواشي وبقي الغبار الاشعاعي حاضراً في الهواء والماء والتراب، لا يمكن لأي ياباني أن ينسى ما جرى حتى بعد مرور 65 سنة على هذه الحادثة.
مجموعات محلية
مناهضة للأسلحة الذرية والهيدروجينية
تبدو تلك المدن اليوم أكثر إصرارا على المقاومة، لقد شكلت «هاروكو موريكاتي» ومجموعة من رفاقها «التحالف الدولي لحظر أسلحة اليورانيوم» في قلب «هيروشيما»، وبدأت منذ أوائل التسعينيات بتنظيم العديد من الأنشطة والمؤتمرات العالمية لخدمة هذا القضية، لا يعلم الكثيرون بأن «هاروكو» المعلمة البسيطة في مدارس «هيروشيما» الابتدائية مصابة بسرطان الثدي منذ العام 1996، إنه موروثها الطبيعي كإحدى سكان تلك المدينة، كان والدها من رواد «المجلس الياباني المناهض للأسلحة الذرية والهيدروجينية» في القرن الماضي، وها هي اليوم تسير على خطا والدها كناشطة عالمية في هذا المجال، لقد خاضت مع مجموعة مخلصة من أهل «هيروشيما» مظاهرات عنيفة في الباكستان والهند عام 1997 بعد إعلان البلدين بدء تجارب نووية مشتركة، لكن التجارب تمت في العام اللاحق وفشلت المظاهرات تلك في الضغط على حكومتي البلدين، فلم تستسلم «هاروكو» وساهمت مع مجموعات محلية في كلا البلدين بتنظيم حملات مناهضة لذلك النوع من التجارب في المدارس والجامعات، كما أنها خصت العراق بالعديد من الزيارات منذ حرب الخليج الأولى وأجرت العديد من المقابلات والنشاطات قبل اجتياح العام 2003 وما بعده، وزارت مستشفيات بغداد والبصرة ورأت بأم العين تأثير أسلحة «اليورانيوم المنضب» على الناس هناك.
القصة العراقية مع اليورانيوم المنضب
لم تر «هاروكو» أفضل من «القصة العراقية» لتكون عنوان التظاهرة السنوية الخامسة والستين بعد قنبلة «هيروشيما»، فدعت مجموعة من الأطباء العراقيين للحديث عن تجربتهم الخاصة مع «اليورانيوم المنضب»، عرّفت «هاروكو» بالحاضرين وتحدثت قليلا عن تجربتها الخاصة هناك وهي تعرض الصور المؤثرة على الجمهور، ثم اعتلى الأطباء العراقيون المنصة وتبادل الجميع تجاربهم حول التلوث الاشعاعي الذي تركته الأسلحة الأمريكية على كل من الشعبين «معانتنا واحدة والسبب واحد» يقول أحد الأطباء العراقيين في نهاية حديثه، ثم تحدث عن مئات الأطنان من الذخائر التي أطلقها الجيش الأمريكي في مناطق مكتظة بالسكان كالبصرة وبغداد والناصرية والديوانية وغيرها، و قياس نسب مرتفعة من اليورانيوم المنضب في الأراضي الزراعية في تلك المناطق، وتحدث خبراء آخرون عن طبيعة تلك المادة المميتة بعد أن تخترق قذيفة من «اليورانيوم المنضب» صفائح الدبابة أو المدرعة أثناء المعارك، حيث ينتج عن ذلك شظايا وغبار من أكسيدات اليورانيوم، لتبدأ مفاعيلها السامة بالانتشار في كافة أنحاء الجسم بعد أن يتم استنشاق الجزيئات الدقيقة منها عبر الجهاز التنفسي فتبدأ مرحلة الموت البطيء على عدة مراحل بعد اختلال الجهاز العصبي وانهيار الجهاز التنفسي وفشل الجهاز الكلوي والكبد واضطراب في عمل الخلايا اللمفاوية، حيث قد يستمر ذلك لسنين، في النهاية اختتمت «هاروكو» هذا التجمع بدعوة الحكومة اليابانية للكف عن «مساعدة الحكومة الأمريكية» في غزواتها بحجة «مساعدة العراقيين»، في إشارة لقوات الجيش الياباني المحدودة التي تم ارسالها إلى جنوب العراق، داعية إلى المساعدة في بناء المستشفيات لا المشاركة في أعمال الدمار.
قالت: أعرف هذا الغضب
«لقد أصرت تلك المرأة أن ألتقط صورة ابنها..» تابعت «هاروكو» قائلة: «لقد أخبرها الطبيب المقيم القليل عن «هيروشيما» وما جرى على هذه الأرض التي نجتمع فوقها اليوم.. أمسكت يدي وهي ترتجف من الغضب ودفعتني أمام سرير ابنها المحتضر.. صرخت فيّ بكلمات لم أفهمها وهي تشير إلى الكاميرا المعلقة على كتفي.. لم تكن ملامحها غريبة على الإطلاق.. أعرف هذا الغضب.. وأدرك هذا الوجع.. إنه وجه امرأة أعرفها من بلدي..»