حصاد الأرواح.. والدولارات..
استغرق انتظاره دقائق طوالاً، أمعن النظر في الشاشة أمامه وهو يرى ذلك التجمع الكبير من السيارات حول المكان، لقد أثمرت عملية المراقبة الطويلة نتائج ممتازة، ها هي الطائرة المسيرة من دون طيار تنقل الصور الحية من أحد البيوت النائية على أطراف الصحراء، عدسة الكاميرا التقطت الوجه المطلوب عند دخوله إلى ذلك المنزل، وأصبح الأمر مؤكدا، إنه القيادي الأكثر خطراً الآن
ومن الواجب تصفيته قبل أن تتمدد مجموعته في المنطقة، قطع الصوت في السماعة أفكاره المتسارعة: «ما الذي يجري؟» أجاب متلعثماً «نعتذر لإزعاجكم في هذه الساعة المتأخرة.. لقد وجدناه.. والطائرة الآن تحوم فوق المكان في انتظار الأوامر.. تطابقت صورة الوجه ومقاييس الجسم ولوحات السيارات.. إنه هو !!».. صمت الصوت في الهاتف قليلاً وقال: «يمكنك البدء..!» عندها لم يحتج الأمر سوى ضغطة واحدة على أحد الأزرار لتشتعل الصحراء عبر صاروخ قادم من السماء..!
أخبارها اليوم في كل مكان، فالولايات المتحدة الأمريكية قد بدأت بتوسيع نطاق عملياتها الجوية لتشمل مناطق أخرى مع زيادة سطوة المجموعات المتطرفة على مساحات متزايدة على الأرض، لذا تبدو الطائرات المسيرة من دون طيار الحل الأنجح للتحكم الفعال في ذلك المد أو إعاقته في الزمان والمكان المناسبين، كما أن جيش الاحتلال الاسرائيلي يستخدم تلك الطائرات بشكل يومي فوق الأراضي الفلسطينية ويستفيد من قدرة مناورتها العالية وسهولة التحكم بها في استهداف قيادات المقاومة وملاحقة خلاياها النشيطة ، كما أنها تقدم للقيادة العسكرية الأمريكية والاسرائيلية أحد أهم المزايا على الإطلاق، فهي لا تخلف أي ضحايا من جانبهم، لا توابيت مغلفة بأعلام ولا أناشيد عسكرية في الجنازات، هي حرب سرية «نظيفة» لا تمس حالة «الأمان» المصطنعة التي تغذيها ماكينة الحرب الإعلامية، لكن الاهتمام المطرد بمثل هذا النوع من الصناعات الحربية يجعل من تلك الأسباب منقوصة وغير مقنعة، لابد من وجود شيء آخر يدفع تلك الجيوش إلى ضخ المزيد من الأموال في ذلك الجانب، ويبدو أن «الفواتير» ستجيب عن بعض الأسئلة..
تستهلك صناعة الطائرات المسيرة من دون طيار القليل من الأموال إن قورنت بالصناعات العسكرية التقليدية الأخرى، فهي بسيطة التصنيع في معظم الأحيان، تحوي الكثير من التجهيزات الالكترونية المعقدة بلا شك، لكنها تعتمد على نمنمة تلك القطع وحشرها في إطار مصنوع من ألياف خاصة يضمن لها أداء مهمتها الجوية بكل نجاح، وبوجود خط إنتاج منتظم لتلك الصناعة، تبدأ كلفة التصنيع بالانخفاض إلى حد مثير للاهتمام، في الوقت ذاته ، تبدو أعداد «الزبائن» في تزايد دائم، عندها يمكن للمرء تخيل كمية الأرباح التي تحققها تلك الشركات، الخاصة والمتعاقدة مع القوات المسلحة حول العالم، والتي لا يتجاوز عددها أصابع اليد، لتتحول تلك المجمعات الصناعية إلى لاعب كبير وتاجر أكبر، يفرض كلمته على الجميع ويلتهم أموال دافعي الضرائب في أمريكا واوروبا لصناعة أدوات القتل المسيرة.
تتحدث الأرقام عن نفسها، فالكيان الصهيوني امتلك سوق الطائرات المسيرة من دون طيار بين العامين 2001 و 2011 من خلال حصة بلغت 41 بالمائة من مبيعات جميع تلك الأنواع من الطائرات، وساهمت شركات أمريكية وعالمية كـ «بوينغ» و«لوكهيد» و«نورثورب غرمن» و«بروكس» في تصنيع الباقي، أما طائرة «البرتيدور» أو «المفترسة»، التي أحبها الرئيس أوباما شخصياً فهدد بها أحد الحاضرين في حفل عشاء خاص في نيويورك مازحاً، فهي تكلف 4.5 مليون دولار للطائرة الواحدة، كما تكلف النسخة المحدثة منها والمسماة «ريبر» أو «حاصدة الأرواح» 12 مليون دولار، والتي تم استخدامها في البلقان والعراق وليبيا والصومال والباكستان واليمن وأفغانستان وغير ذلك من الأماكن، كما أنها تأتي مع صاروخ «نار الجحيم» الأمريكي الذي يكلف حوالي المائة ألف دولار، وبإجراء حسبة بسيطة بعد نشر تلك الطائرات في السماء، نرى أن الولايات المتحدة الأمريكية أنفقت على «قتل» ألفي شخص في باكستان خلال 400 طلعة من طلعات تلك الطائرات بين 33 إلى 44 مليون دولار، حيث تصل كلفة ساعة الطيران الواحدة لتلك الطائرة بين 2500 و 3500 دولار، فربحت الشركة المصنعة «جنيرال أتوميك» 700 مليون دولار في العام 2012 فقط، وبالمجمل تنفق وزارة الدفاع الأمريكية على جميع انواع الطائرات المسيرة من دون طيار خلال خمس سنين ما يقارب خمسة وعشرين مليار دولار! دون أن ننسى «صفقات» الوكالات الأمنية الأخرى وأجهزة الشرطة من تلك الطائرات، فمراقبة الحدود المكسيكية وحدها تكلف 200 مليون دولار من ساعات التحليق ..
لا يقتصر الأمر على الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، فالجيش البريطاني يدفع 30 مليون دولار للطائرة الواحدة للمصنع النرويجي «بروكس»، كما أن شركة «نورثورب غرمن» الأمريكية باعت طائراتها إلى كوريا الجنوبية بمبلغ 1.2 مليار دولار، كما أن «جنيرال أتوميك» أبرمت صفقة بـ 197 مليون دولار مع الإمارات العربية المتحدة لتزويدها بالنسخ الأقدم من طائراتها!
لقد أصبحت هذه الصناعة في السنين القليلة هذه وسيلة عظيمة لتكديس الأرباح، ودفعت بتلك الشركات للضغط على الجنرالات وصناع القرار في عواصم العالم لزيادة الشراء وتكثيف الصفقات معها، وأصبحت كلمة «DRONE» التي ترمز لمثل ذلك النوع من الطائرات كلمة الساعة، والحل المباشر لأي مشكلة عسكرية، فيزداد الشراء وتتحول أموال تلك الشعوب للاستثمار المباشر في صناعة القتل والموت، وبالأخص في أيام الازمات الاقتصادية العالمية كما نرى اليوم، وبعد أن ارتبطت الحكومات الرأسمالية والأنظمة السياسية الغربية بالمجمعات العسكرية وتحولت إلى توءم خبيث يحول البلاستيك والكربون الرخيص إلى «بعوض» قاتل ، يغير على المدن و الأحياء والقرى لـ«يحصد الأرواح» و «يفترس» الجميع.