كم يكلف كأس من الماء؟!
نظمت منظمة «اليونيسيف» التابعة للأمم المتحدة في العام 2006 رحلة خاصة لمساعدة الأطفال المحتاجين في الباراغواي، حيث قامت جينا بوش ابنة الرئيس الامريكي الأسبق جورج بوش بمشاركة المنظمة في جميع نشاطاتها هناك، لكنها اختتمت ما فعلته هناك بأمر غريب، قامت الشابة جينا بشراء ما يقارب مائة ألف آكر من الأراضي بالقرب من مدينة نائية تدعى «تشاكو» على الحدود البرازيلية الأرجنتينية المشتركة مع الباراغواي،
لم يهتم احد عندها لهذا الاستثمار المفاجئ في مجال بيع وشراء الأراضي من سليلة امبراطورية النفط الأمريكية التي يرعاها آل بوش حول العالم، ظن البعض بأن العائلة تريد التنويع في استثماراتها، لكن اهتمام العائلة الرئاسية بهذه المساحات الشاسعة من الأراضي النائية استرعى اهتمام بعض الناشطين، وبالأخص بعد أن نشرت بعض الصحف بأن هذه الأرض تجاور تماما المائتي ألف آكر التي اشتراها جدها جورج بوش الأب العام الماضي، أصبح المجموع ثلاثمائة ألف آكر تقريبا وبقي الغموض قائما.
لم يستمر الأمر طويلا حتى تم اكتشاف السبب الحقيقي من وراء ذلك، لقد قام الناشط الأرجنتيني الحاصل على جائزة نوبل للسلام في العام 1981 بفضح الأمر، تقع جميع تلك الأراضي فوق أكبر خزان مائي باطني للمياه العذبة في العالم أجمع، والمسمى «خزان جواراني»، وهاهم قد امتلكوه بالكامل، يبدو أن آل بوش قد بدأوا بتنويع استثماراتهم بالفعل، لكن ليس في مجال بيع وشراء العقارات، إنهم كغيرهم من كبار الأثرياء حول العالم، يستثمرون في نفط القرن الواحد والعشرين: الماء. وقد أحسنوا الاختيار بالفعل لأن هذا الخزان يحوي اليوم 37 ألف كم مكعب من المياه، وهي تكفي لتزويد العالم بالمياه العذبة لمائتي سنة دون أن يشعر أي منا بالعطش!
أصبح الأمر أشبه بالموضة، بدأت البنوك الكبرى وشركات الاستثمار حول العالم تعد الدراسات المتلاحقة داعية كل من يملك المال للاستثمار في هذا القطاع الجديد كلياً، وسرعان ما تحول كبار رجال الأعمال وأزلام البورصات الضخمة وأثرياء أثرياء العالم إلى شراء المياه أينما كانت، واحكموا سيطرتهم على مؤسسات إدارة هذا المورد الحيوي الخاصة منها والعامة حول العالم، وبدأت البنوك العالمية الكبرى مثل «جولدمن ساكس» و «جي بي مورغان» و«سيتي غروب» و «اتش اس بي سي» بالإضافة إلى قائمة طويلة من أغنياء العالم بالهيمنة على أي بحيرة أو خزان جوفي أو أي شركة تعمل في مجال تنقية أو نقل او البحث العملي في مجال المياه العذبة.
لكن الأمر لم يتوقف عن هذا الحد، فقد دفعت هذه الحملة غير مسبوقة على المياه الكثير من الحكومات حول العالم للحد من الاكتفاء الذاتي من المياه الذي يتمتع به المواطن العادي، وكان المثال مخيفاً للغاية عندما قامت ولاية «أوريغون» الأمريكية برفع دعوى على المزارع البسيط «غاري هارينغتون» بتهمة «جمع مياه الأمطار» في ثلاث برك صغيرة بجوار أرضه، وتم الحكم عليه بثلاثين يوماً في السجن لارتكابه هذه «الجنحة»، في الوقت الذي يتمتع مواطنه الملياردير الأمريكي «بون بيكنز» بكامل الحقوق في 65 مليار غالون من المياه على الأراضي الأمريكية دون أن يقف في وجهه أحد! ويبدو أن الأمر تحول إلى مؤامرة محكمة من قبل رجال «وول ستريت» ومدراء البنوك العالمية الكبرى للتحالف في مجال السيطرة على جميع خزانات المياه العذبة في كل مكان والوصول إلى شكل جديد من رأس المال العالمي يتمحور بالكامل حول «تجارة» المياه، وتم تقدير أرباحها العام الماضي بما يقارب 425 مليار دولار في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، وبدأت الحيتان الكبرى حول العالم بتمزيق شركات توزيع واستثمار المياه العذبة إلى حصص متعددة، فقامت «شركة الاستثمار الصينية» بشراء 8.68% من شركة «ثاميس» البريطانية والتي تؤمن مياه الشرب لأغلب البريطانيين، ثم عادت شركة «أبو ظبي للاستثمار» بشراء 9.9 % من الشركة ذاتها ، بعدها، قام الملياردير الصيني «لي كا شينغ» بشراء شركة «نورثمبرين» للمياه البريطانية أيضاً، والمنافسة لشركة «ثاميس» بالكامل، بما يقارب 4 مليار دولار العام الماضي، لتصبح المياه العذبة البريطانية بيد رجل واحد يملك أموالا تفوق التصور.
ما زال قطاع الاستثمار في المياه العذبة في مراحله الاولى، لكنه يحقق لأصحابه أرباحاً هائلة كل سنة، ومع انحسار المخزون النفطي حول العالم سيزداد الطلب على هذا المورد الحساس، وسيزداد جشع المتحكمين بتلك الموارد بعد ان سلمتهم الحكومات الفاسدة مفاتيح خزانات المياه المحلية، ستبدأ نزاعات وحروب من طابع آخر، كما حدث في أيام النفط الأولى، وسيصبح من الضروري السؤال كل صباح عند متابعة أخبار البورصة: «كم يبلغ سعر كأس الماء اليوم؟!»