«لغز» اختفاء النحل!
كان الشتاء قاسياً هذه السنة، أغرق الأرض بالأمطار وغمرها بالثلوج، وأمضى الكثير منا شهوراً طويلة باردة إلى أن منحت شمس آذار بعض الدفء في أجسادنا، و بسطت بساطاً أخضر جميلاً أينما نظرت، تفتحت الورود وأزهرت الاشجار، ولن يمض الكثير من الوقت حتى نتمتع جميعاً بثمار الطبيعة الغنية
إنه النظام الأزلي الذي يضمن القوت اليومي بتلون وتغير الفصول، وهو ما زال يقاوم عبث الإنسان وازدراءه لأهمية استقرار أركان ذلك النظام من هواء وماء وتربة وتنوع حيوي متكامل، ربما لن يعي أحد مدى هشاشة ذلك النظام حتى وقوع الكارثة، لكن فصل الربيع سيحمل في السنين القادمة مؤشراً صارخاً لن يستطيع احد تجاهله، ستختفي المحاصيل من الحقول، وستفرغ صحوننا اليومية من الخضار والفاكهة، لن نجد تفسيراً منطقياً لذلك في البداية ، لكن مزيجاً من السخرية والذهول سيصيبهم عند معرفة السبب وراء كل هذا الانهيار، إنها حشرة صغيرة محببة نعرفها جميعاً، قد تعلن بزوالها انقراض البشرية.
حمل عام 2006 مؤشراً لم يعد بالإمكان تجاهله، لقد اعتاد العلماء حول العالم على مثل تلك الإعلانات، فقد حمل العقد الأخير أخباراً عن انقراض العديد من الأنواع النباتية والحيوانية، كما حرصت التجمعات البيئية على التذكير بتلك الأخبار على الدوام وهي تناشد الجميع لاتخاذ موقف فعال لإيقاف ذلك، لكن ذلك العام قد حمل أخباراً أسوأ من ذلك بكثير، فقد أعلنت جمعيات بيئية امريكية واوروبية عن تدهور مطرد متزامن لأعداد النحل، وبينت بالأرقام خلو خلاياها إلى نحو مخيف واختفاء تلك الحشرات بشكل غامض، ولم يمض الكثير من الوقت حتى تشاركت مراكز بحثية حول العام هذا الخبر الهام، إن غياب النحل عن دورة الحياة التي سلمنا بوجودها في الطبيعة يعني انخفاضاً لا يمكن تعويضه في نسب تلقيح أزهار النباتات والأشجار، وبالتالي سيكون انقراضه مسببا لموت الأزهار والنباتات والثمر التي تنمو وتتكاثر عبر التلقيح، لن تكفي مواسم الخضار والفواكه شراهة المستهلكين حول العالم، لم يخف أولئك العلماء توقعاتهم المتشائمة، إن انقراض النحل يعني انقراض الإنسان، هذه هي الحقيقة!
متناذرة انهيار المستعمرات
تم تجاهل تلك التحذيرات كما جرت العادة، لتاتي إحصائيات العام 2010 تدق ناقوس الخطر، انخفض إنتاج الولايات المتحدة الأمريكية من العسل إلى ما دون النصف، عندها أصبح للظاهرة هذه اسم رسمي : «متناذرة انهيار المستعمرات» أو Colony Collapse Disorder ، بدأ الاهتمام يتزايد لكن «الغموض» بقي حاضراً، لم يستطع أحد تحديد الأسباب الرئيسية وراء هذا الاختفاء المريب لسكان مستعمرات النحل، لقد قتل الشتاء القارس في السنتين الأخيرتين ثلث أعداد النحل في أوروبا، وانتشر وباء فيروسي جديد تنتجه حشرة صغيرة اسمها فاروا Varroa تمتص دم النحلة من ظهرها، محدثة فجوة فيها ثم تسكنها وتمتص ما تبقى من دمها إلى أن تصبح النحلة عاجزة عن التحليق، كما عزا البعض ذلك إلى جشع مربي النحل واستئثارهم بكميات زائدة من العسل لزيادة أرباحهم دون أن يبقى ما يكفي داخل القفير لمقاومة فصول الشتاء التي تتزايد حدتها كل عام، لكن ذلك الغموض وراء تلك الظاهرة يبدو مصطنعاً بالعودة إلى السبب الذي يقتل بقية الأنواع البيولوجية الأخرى في الطبيعة، نحن من يفعل ذلك..
يحتاج الكثير من الدراسات
يعد تلوث الموارد الطبيعية بفعل المخلفات الصناعية السبب الأول، تزداد نسب الغازات السامة في الهواء بشكل سنوي، وما زالت المصانع تستخدم مجاري المياه مصرفاً لمنتجاتها السامة، لوثت التربة بالمبيدات والأسمدة الصناعية، وحقنت المحاصيل بالكيماويات وعدلت وراثياً، نقض الإنسان التوازن الطبيعي وأخذ يتحكم على هواه بالساعة البيولوجية التي تنظم دورة حياة الأنواع في الطبيعة، تناسى الارتباط الوثيق والمعقد بين جميع تلك الجوانب ليحقق ربحاً سريعاً وإنتاجاً أعلى، وصم أذنيه عن مئات الأبحاث التي ربطت اختفاء تلك الحشرة الذهبية بممارساته المجنونة، وأصر على أن ما يحدث «لغز غامض» يحتاج الكثير من «الدراسات التي تحتاج وقتاً لإثبات ذلك»، فعلى سبيل المثال، تصر مراكز الأبحاث الحكومية الأمريكية والاوروبية على نقض النظرية العلمية التي تربط هذه الظاهرة بترددات أبراج الاتصالات الخليوية حول العالم، فبعد محاولات الكثير من العلماء الحصول على اعترافات رسمية تربط الذبذبات الخاصة بتلك الأجهزة مع الأمراض السرطانية التي تصيب الإنسان، خلصت مجموعة أخرى إلى أن تلك الذبذبات تعمل على التأثير في قدرة عاملات النحل على معرفة الاتجاهات، أي أنها تشوش على قدرة النحل الملاحية، استندت تلك الدراسات على انفجار أعداد أبراج التغطية الخليوية المتزايدة في المدن والأرياف في أوروبا وأمريكا، أي في المناطق التي شهدت تلك الظاهرة منذ البداية، وطالبت شركات الاتصالات بإيجاد حلول بديلة تقي النحل من هذا التشويش، إلا أن الشركات الكبرى أصرت على أن هذه الأبحاث غير صحيحة، ووصفت تلك النتائج بـ «إشاعات الانترنت»، على الرغم من قيام علماء فرنسيين بوضع أجهزة مراقبة دقيقة على ظهر العاملات، وقيام علماء في جامعة «شانديغرا» الهندية وجامعة «لانداو» السويسرية باختبار تأثير الأمواج الخليوية على النحل، وصل الجميع إلى النتيجة ذاتها، لكنها لم تكن كافية للتأثير في نفوذ تلك الشركات.
ما زال «اللغز» حاضراً في الأوساط العلمية وعلى صفحات المواقع الالكترونية، لأن البعض يصر على إبقائه كذلك، لكن الوقت يمر والفصول تتوالى، وسيودي بنا هذا التعنت والجشع الذي تقوده الحكومات والشركات الكبرى إلى زمن تصبح فيه التفاحة الحمراء ثمرة أسطورية تتلو قصصها الأسر الجائعة في الصحراء، تتحسر على بساط الربيع العطر، وعسل النحل اللذيذ..