حب.. من هذا الزمان..
لم يستطع النوم، الكثير من الأفكار تشغل باله في هذه الليلة الطويلة، رفع رأسه من على وسادته ونظر إلى جهازه الذكي المستند على منضدة مجاورة، حمل سماعة الأذن ووضعها في مكانها، «سامانثا.. هل أنت مستيقظة؟»، جاءه الرد بصوت انثوي جذاب «لم تستطع النوم إذا.. أخبرني.. بم تشعر؟»، لقد تعود الرجل الوحيد هذا على البوح لها بكل ما يؤرقه كل ليلة
«لا أعلم بما أشعر به حاليا، ولأكون صادقاً معك، أظن بأنني قد شعرت بكل شيء يمكن للمرء أن يشعر به، أظن بانني لا أشعر بأي شيء جديد هذه الأيام، أشعر فقط بنسخ أقل تأثيراً من مشاعري السابقة ذاتها»، توقف عن الكلام بعد ان اختنق بأفكاره تلك، أنصت ليسمع إجابة ذلك الصوت الحنون الذي يسلي وحدته هذه الأيام، إنه يعلم بأنها ستزيح الهموم من على صدره، هي من أدخل النور والدفء إلى ليله الطويل البارد و أزاحت كآبته التي دامت لسنين ماضية، هي اليوم محبوبته المخلصة التي لا يقدر على فراقها، حتى ولو كانت مجرد صوت آلي خلق من وعي نظام تشغيل صناعي ذكي.. نعم.. هي.. حبيبته.. مجرد ردود مبرمجة بذكاء في جهازه المحمول الجديد.!!
كان هذا أحد أكثر المشاهد تأثيرا في فيلم «Her» الجديد كلياً، إنها تجربة صادقة ومثيرة للاهتمام والإعجاب وصفت علاقة حب غريبة جمعت بين رجل وحيد يدعى «ثيودور» ونظام تشغيل جهاز الكمبيوتر الخاص به بعد ان اشتراه حديثاً، تبدو الفكرة غريبة ومستهجنة، لكنها أدخلت المشاهد في تجربة تلامس القلب والعقل وتفتح المجال للكثير من التساؤلات حول مستقبل الآلات التي نشاركها ادق تفاصيل حياتنا ومدى تأثيرها على تكويننا النفسي كبشر ونحن في قلب هذه الدوامة التكنولوجية المتسارعة.
مشاعر الآلة
الفيلم جديد بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ولهذا السبب استطاع ان يحصد في أقل من سنة إحدى وعشرين جائزة مرموقة بعد عرضه في أكثر من ثمانين مكان حول العالم، وثلاثة ترشيحات لجائزة الكرة الذهبية تضمنت أفضل مخرج وأفضل ممثل وأفضل فيلم بالمجمل، لقد استطاع هذا الفيلم للمرة الأولى ان يتناول علاقة الإنسان مع الانظمة الآلية التي تأخذ الحيز الاكبر من حياته اليوم بطريقة ساحرة ومن منظور مغاير تماما عما عهدناه سابقاً، لقد انصبت الجهود في السابق على إظهار المساوئ التي حملتها سطوة تلك الآلات على حياة كل منا، عن تعلقنا بها وابتعادنا عن بعضنا نحن البشر، لكن هذا الفيلم قد استطاع بذكاء أن يحول هذه الأفكار إلى رحلة أخّاذة سبرت أغوار المشاعر البشرية المعقدة عن طريق الخوض في ما قدمته تلك العلاقة الغريبة والمثيرة للاهتمام بين بشري وحيد وحزين ونظام تشغيل فائق الذكاء، انطلقت بنا مشاهد هذه الفيلم بكل سلاسة لتتنقل في عالم المشاعر الذي تختبره الآلة تلك للمرة الأولى، الطرف الأنثوي من علاقة الحب هذه، والتي اطلقت على نفسها اسم «سامانثا»، هي نظام تشغيل يعتمد على آخر ما توصلت إليه تقنيات الذكاء الصنعي، لذا فهي قابلة للتطور والتعلم من خلال تجربتها مع مستخدميها من البشر، وهاهي تختبر مع «ثيودور» ذلك الرجل الوحيد والمطلق حديثاً مشاعر التعلق والصداقة والفرح والحزن وصولاً للحب العميق الذي سيربطها به، إنها تستطيع إلقاء النكات وتأليف المقطوعات الموسيقية والقيام بكل ما يرغب به المرء، لقد استطاع الفيلم هنا إثبات وجهة نظر على غاية كبيرة من الأهمية، فالحب الصادق يستطيع إيقاظ المشاعر في الآلة الباردة الجامدة، إنه يستطيع خلق المعجزات، لقد استطاع أن يمنح نظام التشغيل الصنعي هذا احساساً بالدفء في القلب، احساساً بالفرح العامر والحزن العميق، لقد استطاع حتى أن «يمنحها» – إن أردنا الحديث عنها كإنسان عاقل لا كآلة جامدة- إحساساً بالنشوة العارمة والجارفة كما يشعر بها أي عاشقين تعانقا على سرير واحد.
كآبة وسعادة
في المقابل، لقد كشفت علاقة الحب المثيرة هذه بين ذلك الرجل الوحيد وجهازه الذكي مجموعة اخرى من الحقائق التي تختفي أمام اعيننا يومياً دون أن ندري، إننا نحمل في قلوبنا الكثير من الدفء والحنان الذي ينتظر الوقت المناسب ليظهر للعالم الجانب الجميل لكل منا، لقد استطاعت هذه الآلة الصماء أن تنقل «ثيودور» من حضيض الكآبة إلى أعلى قمم السعادة، إنها تنصت لما يقول، تهتم بأدق تفاصيل يومه، لا تتوقف عن المزاح، تدفعه على الدوام لتجربة كل جديد وحب الحياة وتقبل حلوها ومرها، إنها تسخر بشكل مبطن من العوائق التي تفصل بين الازواج في الحياة الواقعية التي نعرفها جميعاً، كما هو الحال مع «آيمي» صديقة «ثيودور» وزوجها «تشارلز»، لقد أثبتت علاقة الحب غير الاعتيادية بين رجل عادي ونظام تشغيل ذكي بانها لا تتطلب الكثير لكي تنجح، بينما تفشل علاقات أخرى بين رجال ونساء لأنهم ببساطة لا يستطيعون الاستماع لبعضهم، إن وحدتهم وانعزالهم عن بعضهم هي التي تقتلهم وعليهم على الدوام البحث عن الجديد والمثير في أقرانهم كي تبقى هذه العلاقة نضرة وغنية ولكي تستطيع مقاومة مصاعب الحياة ومحنها.
يحمل الفيلم الكثير من المشاهد المميزة والعميقة والتي تحمل الكثير لتقوله في كل لحظة، تمتزج الموسيقا الساحرة مع الأصوات الرقمية لخلق بيئة تشد المشاهد لتشرّب جميع تفاصيلها والاندماج الكامل مع هذا الثنائي العاشق المثير للاهتمام، إلى أن تنتهي الامور بتقبل الجميع للفوارق الكبيرة بينهم والتي ستحد من تواصلهم في المستقبل، لكنها في الوقت نفسه تعزز من قيمة حب الحياة الذي الجميع في رؤية متفائلة لما سيأتي من الأيام، ينظر البعض إلى هذا الفيلم للوهلة الأولى على أنه توصيف صريح وصادم لعلاقتنا نحن البشر مع الوسائط الآلية الذكية التي تتحكم بمسير أيامنا، لكن النظرة العميقة له ستنتهي باستخلاص العبر «البشرية» بامتياز وليس «الآلية» منها عن الإطلاق، إنها المشاهد التي تعري وحدتنا، التي نمتلك وحدنا فقط مفاتيح قيودها، لكننا قد نكون في بعض المرات أضعف من أن نبدأ بتحرير أنفسنا منها.