الطباعة ثلاثية الأبعاد.. خلق بلا حدود
تحلق الجميع أمام النافذة الزجاجية التي تفصلهم عن غرفة العمليات، مرت ساعتان على بدء العملية الجراحية والجميع يستمع بكل اهتمام لأحد العلماء المجتمعين حول المريض، إنه طفل في السادسة من العمر محاط بالأثواب البيضاء وقد ظهرت عظام ركبته المهشمة بعد ان أزاح عنها فريق الأطباء جميع الأنسجة والأعصاب،
أشار أحد العلماء إلى إحدى الآلات في زوايا الغرفة، وفغر الجميع أفواههم وهم يرون ذراعاً ميكانيكية تتحرك جيئة وذهاباً حول كتلة صغيرة من مادة بيضاء، وما هي إلا دقائق حتى ظهرت المفاجأة الكبرى، إنه مفصل كامل من عظم الركبة صنعته تلك الذراع من خلائط سيليكونية!! عندها اقترب أحد الأطباء من الميكروفون مبتسماً: «سيعود هذا الصبي للعب الكرة من جديد، بفضل طابعتنا الجديدة ثلاثية الأبعاد !!»
«إنها التقنية التي ستغير كل شيء»، هكذا عنونت كبريات الصحف ومواقع الأخبار العالمية حينما قُدم هذا المفهوم للمرة الأولى أمام العالم، وهذه ليست مبالغة على الإطلاق، فقد أصبحت الطباعة ثلاثية الأبعاد قادرة على تشكيل أي شيء وبأزمان قياسية بالاعتماد على تقنيات أخذت سنين من البحث والتطوير حتى وصلت اليوم إلى ما آلت عليه، إنه منهج ثوري موحد في التصنيع يعتمد ببساطة على طابعة خاصة موصولة بجهاز كمبيوتر مع مخزون خاص من مواد التصنيع.
تمر عملية التصنيع هذه بثلاث مراحل أساسية، حيث تعمل كاميرات خاصة على التقاط صور مختلفة الزوايا للكائن المراد «خلقه» ثم تليها مرحلة تشكيل مجسم رقمي تعمل برمجيات خاصة على تحليله وصياغة خطوات تصنيعه، لتنتهي العملية بحركات مدروسة من أذرع الطابعة الآلية اعتماداً على تقنية «الطبقات»، حيث تقوم الآلات بتشكيل الجسم الهدف طبقة تلو الأخرى، تختلف في طبيعتها ووظيفتها، وعن طريق توضيع المواد بدقة في المكان الذي نريد ثم تنمية الطبقة الحالية بطبقة أخرى بعد أن تستقر حالتها الفيزيائية، وهنا بالذات يكمن الفرق بين هذه التقنية وطرق التصنيع التقليدية، لأنها ببساطة تعتمد على منطق «تجميعي» كامل لطبقات المادة بدلاً من المنطق الـ «التحويلي» الذي عهدناه في طرق التصنيع المعروفة كالنحت والقطع والنشر والطرق وغيرها.
يكمن الجمال في هذا التقنية في إمكانية «طباعة» ما نريد من الأغراض القادرة على أداء وظيفتها بشكل كامل، في تلاشي واضح لأي تعقيد فهي لا تتقيد بأي طرق صناعة تقليدية ومعروفة مسبقاً، لذا يمكن القول بأن أي شكل أو كائن فراغي يمكن تخيله هو قابل للتصنيع، ووفق ما نرغب من مكونات كالبلاستيك والنايلون والمعادن عالية الكثافة والمواد المركبة والشمع والمطاط وغيرها الكثير، كما يمكننا «طباعة» مواد ملونة بتركيبة تصل إلى 382 لون في كل طبقة، لتظهر بالشكل الذي نحب ونشتهي.
واليوم تصنع تقريبا جميع أجهزة المساعدة على السمع الطبية بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد، بالإضافة إلى عمليات الترميم للأسنان كتصنيع التيجان والجسور، كما أن معظم عمليات زراعة العظام الدقيقة تتم طباعتها بشكل ثلاثي الأبعاد، بل ويمكن «طباعة» جميع الأدوات المشاركة في هذه العملية من أدوات التثبيت و الحفر وباقي الأدوات التي تسمح للجراح بالعمل، حيث خرجت هذه التقنية بسرعة من إطار التطبيقات الطبية لتثير اهتمام جميع الشركات الكبرى على اختلاف اختصاصاتها وأصبح هناك أحذية ومجوهرات وألعاب وأسلحة وقطع الكترونية وحاسوبية وقطع غيار للسيارات والطائرات والبواخر والمركبات الفضائية و .. و.. وقد صنعت باستخدام الطابعة ثلاثية الأبعاد.
إنها تقنية مستقبلية بالفعل، كما أنها مستدامة إلى حد كبير، فلا هدر ولا ضياع إن كنت تعمل على تصنيع دقائق الأغراض بكل دقة، مما يعني توفيرا كبيرا في المصادر، كما يمكنك صناعة ملايين النسخ من الغرض ذاته دون أن تستطيع تفريق أحدها عن الآخر، كما قامت بالاستغناء عن عدد كبير من الآلات الضخمة في المصانع الشاسعة واستبدلتها بطابعة صغيرة تتصل بجهاز الكمبيوتر، مما يعني نقل عملية التصنيع إلى المستهلك مباشرة أو إلى الجهة المستفيدة من ذلك لتعمل على تلبية احتياجاتها بنفسها عند كسر أو عطب أي جزء من أجزاء منتجاتها، فهل يستطيع أي منا تخيل تأثير ذلك على قوانين الإنتاج، ودور العمال، ودورة التصنيع، وسواها من المفاهيم؟!