أجهزة ذكية.. أناس أغبياء؟!
كان اليوم الثالث من رحلتي إلى «مصر»، ولا بد الآن من زيارة الأهرامات التي تغنى بعظمتها الجميع، لكني كنت وقتها في عالم آخر، فأنا لم استطع منذ وصولي وعلى مدى تلك الأيام الثلاثة أن أحل مشكلتي المعقدة
لقد كنت احاول ضبط إعدادات شبكة الانترنت لهاتفي الخليوي، وأريد بشدة تفقد بريدي الإلكتروني والرد على رسائل العمل التي لم أستطع تجاهلها، قد نلت حصتي من سخرية رفاقي وهم يتغامزون عندما أصرخ في جهازي مغتاظاً، حتى أن أحدهم قد استطاع بخبث التقاط صورة لي وانا أجلس على مدخل أحد الأهرامات الأقدم والاجمل على وجه الأرض أحدق في جهازي الخليوي غاضباً متجهماً.
على كل حال، لا يعير الكثيرون انتباهاً لهذا الهوس التكنولوجي المرضي الذي اكتسح حياة كل منا، فقد أصبحت «الأجهزة الذكية» رفيقة أيامنا دون ان نستطيع إبعادها من أيدينا، ولابد الآن من امتلاك الأسرع، والأخف، والأرفع، والأدق، والأجمل منها ، فيزداد تعلقنا هذا يوماً بعد يوم مع ازدياد ارتباطنا بمواقع التواصل الاجتماعي المتنوعة، لنحصل في النهاية على «خليط» جذاب لا يقاوم يكرس نمطاً جديداً من السلوك «غير» الاجتماعي على شكل حلقة مفرغة تعزل الإنسان عن محيطه.
قد يبدو هذا الكلام للبعض تشاؤماً لا مبرر له، لكن مطالعة التاريخ التكنولوجي تثير الكثير من التساؤلات، فقد قام المذياع في البداية بالحلول مكان العديد من النشاطات البشرية الجماعية الأخرى، ولحقه التلفاز في القضاء على ما تبقى منها، ليأتي استعمال الحاسب الشخصي كنشاط «فردي» تكنولوجي بعد ان كان من الممكن وصفه بالـ «الجماعي» في حالة تجمع العائلة أمام التلفاز والمذياع، ثم جاءت ثورة الانترنت لتزيد من انعزال الفرد وانشغاله، لينتهي الامر بدخول أجهزة الاتصال المحمولة سوق الاستهلاك ليدخل الإنسان في نمط جديد تماماً من «التوحد» و أمراض «قصور الانتباه» مقبولة و محمودة ومحبذة اجتماعياً دون ان نشعر بتباعته الخفية في استهلاكه اليومي لوقتنا ونشر العديد من الأمراض النفسية الانعزالية او العصبية المتعلقة بالتوتر والضغط النفسي والأمراض الجسدية كالبدانة والشره المرضي.
وعلى الرغم من دور وسائط التواصل الرقمي في زيادة التقارب بين الناس بأساليب مختلفة إلا اننا لا نستطيع تجاهل مساوئ تلك الأساليب وتنحيتها للطرق المعهودة في التعامل البشري اليومي ضمن المجتمعات، لا وبل انماط التفكير البشري أيضاً، وهنا تكمن الفكرة الجوهرية، لأن وسائط الاتصال الفيديوي قد قربت بالفعل بين الأحبة المتباعدين جغرافياً، وساهمت التجمعات البحثية على الانترنت في دعم الحركة العملية العالمية وتبادل الخبرات في شتى المجالات، كما شكلت مواقع التواصل الاجتماعي ثروة فكرية غيرت المفاهيم في إطار حركة عالمية عابرة للغات والثقافات، لكن الأمر يتجاوز الحد المقبول عند دخولك إلى أحد المطاعم والجميع جالس على الطاولات والكل يحدق في شاشته «يعجب» بصورة فيسبوكية أو «يدردش» مع الأصدقاء دون أن يلتفت أفراد الطاولة الواحدة لبعضهم أو ينبسوا ببنت شفة! أو عندما ترى الجميع مطرقين في مواجهة هواتفهم المحمولة في حديقة عامة ترسم فيها الأم الطبيعة أجمل اللوحات لتزيل الهموم من الصدور، أو عندما يفاجأ البعض بالحقيقة القائلة بان بعض انواع القردة قادرة على حفظ عشرة أرقام معقدة عن ظهر قلب وما يزال الناس يلجؤون إلى هواتفهم الخليوية لاستذكار أرقامهم لأنهم لا يستطيعون حفظها ! أو عندما تكتشف بأن مهارتك في كتابة مفردات اللغة الانكليزية قد تراجعت إلى حد كبير عند فشل المحرر الالكتروني في «تصحيح» أخطائك الإملائية!