أخـضـر.. أسـود..

أخـضـر.. أسـود..

«يملك العنف المفرط في هذا العالم وسائل متعددة تمنع الناس من رؤية المصالح التي يخدمها، لهذا تختفي الأطراف ذات الربح الأكثر من أرض المعارك والكوارث، وتظهر رأسمالية «متقدمة» شهدنا آثارها على مدى ثلاثة عقود على شكل أزمات متلاحقة تغير مكانها حالما تفضحها القوانين والأعراف. » - ناعومي كلاين

 هي أسطر قليلة من أحد أهم الكتب التي «تساعدك بالفعل على فهم واقع هذا العالم» كما عرّفت عنها صحيفة الغارديان البريطانية، وهي تعود لأحد أكثر الكتاب المعاصرين إثارة للجدل، إنها  الكندية «ناعومي كلاين» التي نالت شهرتها العالمية بعد صدور كتابها الأول «بلا شعار» الباحث في تأثير العلامات التجارية وداعميها على رغبات وأهواء الناس والفاضح للسياسات الاستهلاكية الغربية ، وكان لانتشاره الكبير الفضل  في دعم نشر كتابها التالي «عقيدة الصدمة» الذي ترجم بسرعة هائلة إلى 28 لغة والمتضمن العديد من النقد الجارح بحق النظام الرأسمالي واقتصاد السوق الحر،  لكن أهمها كان الإشارة إلى ميل النظام الرأسمالي إلى الاستفادة من الكوارث –الطبيعية منها والمصطنعة- في زيادة الأرباح وفرض مناخ استغلالي يتغذى على البؤس، وها هي اليوم وقد أصبحت حديث الساعة بعد أن تناقل البعض الأخبار حول صدور كتاب جديد لها -لم يعنون بعد- يغوص في تفاصيل الأزمات البيئية العالمية و يلقي الضوء على علاقة تبعات تلك الأزمات بالسياسات الرأسمالية الجشعة ذات الارتباط المشبوه ببعض منظمات الدفاع عن البيئة.
على كل حال،  يعلم الجميع بأن الكثير قد قيل عن الأزمة البيئية العالمية، وعن دور الإنسان السلبي في تعميق آثارها الكارثية على الطبيعة الأم وما قد يتبعها من تغييرات مناخية غير محسوبة العواقب، لكن «ناعومي» تريد الحديث عن أمر مختلف ومثير، لقد كانت السباقة في الإشارة إلى الدور الرجعي لبعض التجمعات «الخضراء» المدعومة في الخفاء من عمالقة التوسع الصناعي الجائر وصولاً إلى شراكة اقتصادية غير معلنة بين تلك التجمعات و«أعدائها الافتراضيين» من تلك الشركات.
الليبرالية الجديدة
تغوص الكاتبة في تاريخ هذا التحول المثير للريبة، وتستعيد أمجاد انتصارات الحركات البيئية في الستينيات والسبعينيات والتي انتهت إلى صياغة الكثير من التشريعات الخاصة بوقف التلوث وحماية الحياة البرية، لكنها اصطدمت بعوائق جبارة وضعتها إدارة الرئيس ريغان ، واتهمت الحركات «الخضراء» بأنها حركات «شيوعية!» وشنت عليها الحملات الإعلامية الممنهجة طوال سنين الحرب الباردة لأنها وقفت ببساطة امام مدحلة الرأسمالية و«الليبرالية الجديدة» فوضعت تلك الحركات أمام خيارين لا ثالث لهما : إما الاستمرار بالمقاومة أمام عدو يزداد طمعاً وشراسة مع الأيام أو أن تكيف نفسها مع هذا الواقع الجديد، مع الحفاظ على حد مقبول من الوعي والتمسك بالمبادئ الأساسية، وهنا بدأت المصيبة واختفى «العدو» الحقيقي في مناخ غير مقبول من التحالفات ارتبطت فيه مجموعات الاحتباس الحراري بشركات النفط والفحم الكبرى!، وتمثل الانتصار الأعظم للمجموعات البيئية بمقاضاة إحدى تلك الشركات الملوثة والانتهاء بأخذ حصة من أسهمها وبالتالي الدخول في شراكة اقتصادية معها تضرب عرض الحائط الغاية من وجود تلك المجموعة البيئة في الأساس.
الإبادة الجماعية
تذكر الكاتبة هنا العديد من الكوارث التي شهدها العالم مؤخراً، وتفرد الكثير من الصفحات لتفاصيل أحداث «التسونامي» في آسيا وأعاصير «كاترينا» و «ساندي» في أميركا، إنها تتحدث بصوت صارخ عن نوع وحشي جديد من «الهندسة الجيولوجية» يستعد  للتضحية بأعداد كبيرة من الناس في طريقة تقشعر لها الأبدان. «إننا نسمح للثقافات أن تموت، نتيح للشعوب أن تختفي.» تقول ناعومي، وتذهب أبعد من ذلك وتضيف : «لدينا القدرة على إيقاف كل هذا لكنهم يختارون عدم فعل ذلك» وترى بأن هذا «العنف اللاأخلاقي» لا يمكن ترجمته بمصطلحاتنا المألوفة ، لكننا نراه جلياً أثناء متابعة ندوات اتفاقيات المناخ العالمية حيث تستخدم الوفود الأفريقية كلمات مثل «الإبادة الجماعية»، مما يثير استياء مندوبي الاتحاد الأوروبي وأمريكا الشمالية لأن تعريف الأمم المتحدة للإبادة الجماعية: هو العمل المتعمد لإخفاء وتهجير الناس. والحقيقة أنهم لا يفعلون هذا لأنهم يريدون إخفاء أحد، «نحن نقوم بذلك لأننا لا نهتم أساساً» يقول المندوب الغربي ويغادر القاعة «نحن لا نهتم إذا كنت تختفي إذا واصلنا العمل على النحو المعتاد، إنها أضرار جانبية!!» يوافقه في رأيه هذا الكثير من «الجمعيات البيئية» التي ستساوم على أرواح أولئك الناس مقابل حصص يتفق عليها وتحت شعارات «حماية مسيرة التطور الصناعي البشري» .
الجذور الخضراء
على كل حال، لا تخفي «ناعومي» تفاؤلها، وتشير دوماً إلى الدور المتنامي لبعض التجمعات الجديدة الرافضة لهذا المرض المستشري في أوساط الحركات «الخضراء» العالمية، إنه صراع مستمر كما تقول، لكنه سينتهي إلى حالة يصغي فيها الجميع إلى صوت الناس المسحوقين تحت أكوام الثلوج  وتحت الأمطار الجارفة أو من على أسطح المنازل العائمة، وستعي عندها تلك المنظمات المتورطة في تلك الشراكة الرأسمالية الخبيثة بأنها فقدت المؤمنين بها، ولن تستطيع الوقوف أمام «الجذور الخضراء» التواقة لإطلاق البراعم الأولى  تحت الشمس الساطعة.