التحدي.. الأتمتة المؤسساتية وقوى الفساد..!
لا تكاد تخلو أية مؤسسة عامة اليوم من مجموعة الحواسيب الشخصية تتوضع أمام معظم موظفيها، نراها بمختلف الأحجام والأشكال تحاول جعل الأعمال المكتبية اليومية أكثر سهولة وفعالية، لكن الواقع مختلف عن ذلك تماما، فقد تحولت تلك الأدوات إلى صناديق تجمع الغبار
أو إلى وسيلة جديدة للتسلية واللعب وسماع الموسيقا والدردشة على مواقع التواصل الإجتماعي. يتساءل البعض : «ما المانع إذاً من دخول الأتمتة الحاسوبية بشكل أكثر فعالية إلى نظام العمل المكتبي؟» ويزداد السؤال إلحاحاً عندما نرى تجارب رائدة لدول مجاورة تمت في زمن قياسي وبإمكانات متواضعة سمحت بالانتقال إلى نظام رقمي حديث قام بتخفيض تكاليف الإنتاج وزيادة تنافسية المؤسسة ورفع جودة العمل الإداري وتخفيض الهدر في الموارد المادية والبشرية.
هناك أسباب معروفة لهذا الفشل أهمها عجز الدولة عن تفهم الأبعاد الحقيقية لعملية الأتمتة وقيامها بهدر ملايين الليرات على تجهيز الحواسيب المكتبية وتوزيعها، دون أي خطة استثمار حقيقية في العملية الإنتاجية، فتمت عملية طرح المناقصات قبل عملية تخطيط النظم، ووقعت الجهات المسؤولة عن التنفيذ في حالة من التخبط والضياع، نتيجة اعتماد خطط العمل المتخلّفة ذاتها في إطار العمل المؤتمت الجديد دون بذل أي جهد يعمل على تطوير تلك الخطط أولاً، كما أن قصور الدعم الحكومي للشركات المحلية البرمجية وقلة الكوادر المحلية وسوء خبرتها الأكاديمية والعملية، وغياب قوانين حماية الملكية الفكرية الاكترونية ونفور الموظف من التغيير في نظام عمله المألوف، ساهم مع مجموعة أكبر من الأسباب في انهيار أي مشروع جديد في هذا الإطار، وعمل على نقل صورة سلبية حول الجدوى من تنفيذ هذا المشروع من الأساس.
لكن من المثير للاهتمام تناول الأسباب الخفية لفشل مشاريع الأتمتة السورية والتي تعود إلى تحكم قوى الفساد الإداري بمفاصل تلك العملية، لإنهم الأدرى بأن نجاح تلك المشاريع يعني الحد من سطوتهم على أركان العملية المؤسساتية، فمثلاً: لن تستطيع تلك الزمر الفاسدة التربح من المناقصات المتتالية في شراء التجهيزات الحاسوبية ثم بيع المتقادم منها إلى جهات أخرى، كما أن استخدام النظام المؤتمت الحاوي على درجات مختلفة من صلاحيات التعديل والعرض والإرسال للوثائق وأنظمة التوقيع الرقمي والتحقق من الهوية، يضع حداً وبكل سهولة لعمليات التزوير والتلاعب، ويلغي التأخير الروتيني في الإرسال والاستقبال، ويضع حداً لسطوة الموظفين على اختلاف درجاتهم على آلاف المراجعين يومياً، ويلغي الحاجة إلى الرشوة بقصد الاستعجال أو تسهيل المعاملة الورقية، ويفرض نظام تحكم متكامل يسمح بتحديد المسؤولية وحصر الأخطاء في أي ظرف كان.
على كل حال لا أريد أن أرسم صورة قاتمة لوضع الأتمتة في سورية ولا أن أدعي أن الاستثمارات فيها كانت دون جدوى. ولابد أن تكون التجارب الأولى غير ناضجة، لكن تجاهل مقاومة قوى الفساد الإداري لهذه العملية التقدمية يساهم في تفريغ ذلك المجهود من محتواه، وسيحوله من صفعة قاصمة لتلك القوى إلى مشروع فاشل، يساهم في هدر الأموال العامة ويعيق أي عملية تطوير حقيقية للنظام المؤسساتي، الذي عانى ويعاني من تغلغل طفيليات المفسدين فيه دون أي حسيب أو رقيب.