دور الباحث الاجتماعي في صوغ الصيت العلمي

دور الباحث الاجتماعي في صوغ الصيت العلمي

كيف تقاس آليَّات بناء السمعة؟ كيف يمكن التثبت من مؤشّر على غرار «مُعامِل التأثير»(impact factor)؟ كان ذلك القياس موضوعاً كلاسيكياً في علم الاجتماع المعرفي، خصوصاً عند عالِم الاجتماع بيار بورديو الذي أطلق على الأكاديميين المعاصرين لقب «هومو أكاديموس» Homo Academius، اقتباساً من تسمية الإنسان العاقل» بـ «هوموسابيانس» Homo Sapiens. ويرتبط ذلك المجال المعرفي تقليدياً بالدراسات عن المجتمع الأكاديمي وأهداف الإنتاج المعرفي، لكنه لم يكن يلجأ دوماً إلى أدوات القياس التي صارت رائجة حاضراً.

وفي كتاب خصصه لدراسة الأوساط الأكاديمية الفرنسية، يطرح بورديو أيضاً سؤالاً عن دور الباحث الاجتماعي، وقدرته على فهم العالم بموضوعية انطلاقاً من موقعه. ويشير إلى أنه للخروج من الموضوعية المجتزأة القابلة للجدل، يتوجب فهم العالم الأكاديمي كحقل للتنافس القوى، مع المطابقة بين المسارات الاجتماعيّة والأكاديمية. وكذلك يحثّ على ضرورة فهم النتاج الثقافي غير القابل للاختزال، لأنه برأيه يشكل جزءاً من المجتمع ويكون على صورته، حتى ولو لم يكن متوافقاً معه.

كذلك يعتقد بورديو بأن ذلك الفضاء الأكاديمي، يعيد هيكلة أنواع مختلفة من السلطة، وهو في الواقع يرتكز على مبدأ السلطة انطلاقاً من وجود مواقف فكرية أو سياسية للباحث. ويلفت إلى أن الباحث تتوجب عليه معالجة الوضع الأكاديمي لتحديد التوازن في أوقات الأزمات، على غرار ما كانه الحال في انتفاضات الشباب الشهيرة في العام 1968 في فرنسا.

آنذاك، كانت تلك الصورة الاجتماعيّة لسمعة الباحث سائدة، وتم قياسها على أساس الأوضاع الاجتماعيّة والتأثيرات الاجتماعيّة والاقتصادية والسياسية المؤثرة في البحوث، وليس على حتمية الإنتاج المعرفي.

من وحي «سوق عكاظ»

وفي حقبة تالية، تغيّرت تلك الطريقة الكلاسيكية بعمق بعد أن دخل على قياس السمعة العلميّة للباحث وللمؤسّسة، مجموعة من الأدوات المستخدمة في التقييم. وترتكز أساساً على إحصاء عدد الاقتباسات، والتصنيف العالمي للبحوث والباحثين عبر تقويم إنتاجهم العلمي، وكذلك صار حصولهم على جوائز وميداليات، مؤثراً في الطريقة التي يتم فيها بناء السمعة العلميّة للبحوث حالياً.

يدل ذلك التشابك للأدوات والآليات والمعايير والاستخدامات، على ظهور مزيج بين الممارسة الكلاسيكية القديمة للاعتراف المتبادل بين الزملاء من جهة، وبين دينامية جديدة، وتأثيرات غير متوقعة أحياناً، من الجهة الثانية. وربما راق لبعضهم أن ينعت تلك الحال «بسوق عكاظ للعلوم»، قياساً على «سوق عُكاظ» التاريخي الشهير الذي كان مجالاً للتنافس بين شعراء العرب، ضمن أشياء أخرى في ذلك السوق!

استطراداً، من الممكن النظر إلى تلك السوق العلمية وأدوات قياسها، على أساس أنه مركب من ثلاثة مستويات. يتعلق المستوى الأول بمنطق الاحترام والمكانه العلميّة المرتكزة على التصميم الكلاسيكي لقراءات البحوث عبر هيئات علميّة مختصة بذلك النوع من القراءة التقويمية (تسمى «مراجعة من زميل» peer review). وتعتمد المجلات العلميّة المُحكَمَة تلك الطريقة، وهي تكفل بأن يكون لتلك المجلات دورٌ في تقويم البحوث العلميّة، وكذلك تكسبها طابع «السلعة المرجعية» («براند» Brand) علميّاً، كما تؤدي دوراً رئيساً في تصنيف الباحث والمؤسّسات العلمية أيضاً.

تتسم تلك الطريقة بطابع التقويم للمحتوى، وهو يطاول حتى البحوث التي تخرج من الدائرة العلمية المحضة للبحاثة، لأن الهدف النهائي لذلك النوع من التحكيم المتقن هو النشر العلمي في المجلات المحكمة.

بذا، تبقى اللجان التحكيمية هي المدخل الأساسي للاعتراف بالباحث، ولها هدف يحدد مدى أهمية البحث والمقال العلميين، وموثوقيتهما وصلاحيتهما للنشر.