الفن الجزيري الإيرلندي
بينما كانت تسود معظم أوروبا فوضى اجتماعية في القرون التي تلت انهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية عام 476م، بدأ عصر ذهبي رائع من الإنجازات الفنية والعلوم الدينية في إيرلندا. لقد حافظت إيرلندا، وهي التي لم يقربها الحكم الروماني الذي دام قروناً، على مجتمع قديم متماسك يتسم بتجمعات بشرية قروية أكثر منها مراكز مدينية. في الفترة الممتدة ما بين 400 إلى 1000 للميلاد، وهي الفترة المعروفة باسم «عصر القديسين والمدرسيين»، انتشرت البعثات التبشيرية الإيرلندية ناشرة المسيحية والمدارس الكنسية في إسكتلندا وإنكلترا وفرنسا وهولندا وألمانيا. وأثناء قيامها بذلك، نقلت نمطاً نشطاً وحركياً من الفن عبر أوربا الغربية: إنّه الفنّ الجزيري «insular art».
تعريب وإعداد: هاجر تمام
- جذور الفن الجزيري:
ما هي العوامل التي قادت إلى تطوّر عناصر هذا الفن الفريدة؟ هل من الصحيح ربط الفن الجزيري بانتشار المسيحية، بحيث تكون نظاماً رعوياً بين نخب الكهنة والحرفيين؟
إنّ ما نسميه بالفن الجزيري له جذوره في ثقافة تينه «La Téne culture» (نسبة لمنطقة تينه في سويسرا حيث تمّ اكتشاف 3000 أثر من تلك المرحلة تعود إلى أواخر العصر الحديدي)، وهو الاسم الذي يطلق على قارة أوروبا السلتية (التي امتدت من 450 إلى 50 قبل الميلاد). تكشف الآثار بأنّ السلتيين أنشأوا تقاليد فنية تنافس اليونانية والرومانية.
يتميّز فن التينه الجزيري بأشكاله المضلعة وبتجريديته وبدرجة الخبرة التقنية العالية في تشكيل المعادن. يميّز هذا الفن نفسه عن الفنّ اليوناني-الروماني بالتصاميم غير القصصية، رغم وجود العديد من القصص المروية. وخلافاً للفن اليوناني أو الروماني، نادراً ما يصوّر الفن الجزيري نشاطاً جنسياً أو حتّى شكلاً بشرياً كاملاً. إنّه يعتمد على الأشكال المبهمة المتغيرة كإحدى سماته الأساسية، وعلى صور قابلة للعكس لكائنات نصفها بشري ونصفها طيور أو نصفها وحوش أسطورية، حيث يتمّ رسم الوجوه بالزخارف التي تتلاقى وتتقاطع بين المؤخرة والمقدمة. ولم يشهد الفن الجزيري أيّ خطوط مباشرة أو مستطيلات حتّى قدوم الرومان إلى بريطانيا.
وقد حملت المسيحية تغييرات ملحوظة في الفن الجزيري. أحد الأسباب الهامة لذلك هي الانتقال إلى دين يعتمد على النصوص المقدسة: الإنجيل. حيث حوّل الفنانون الجزيريون اهتمامهم إلى الورق والرموز الكتابية، من أجل سرد معجزات المسيح وقصّة الخلق.
- الآثار الذهبية والفضية والحجرية:
إنّ بعضاً من أفضل وأجود الأوراق المكتوبة والآثار الذهبية والفضية والمعدنية الأوربية تأتي من العصور الوسطى المبكرة في إيرلندا. كما أنّ الحرفيين الإيرلنديين أنتجوا أيضاً صلبان حجرية أو «صلبان مرتفعة High Crosses».
كما أنّ البيكت الإسكتلنديين «Picts of Scotland» كانوا حرفيين مهرة في الحجارة أيضاً، لذلك من المحتمل أخذ الإيرلنديين بعض الإلهام من جيرانهم البيكتيين عبر البحر الإيرلندي. كيف تختلف الأعمال الحجرية الإيرلندية عن النماذج الأولى التي وجدت في الجزر البريطانية، وهل يمكن ربطها بالابتكارات الرئيسيّة في النحت الذي حدث خلال تلك الفترة؟
تبقى الأحجار البيكتية أحد أعظم المنحوتات المذهلة في غرب أوروبا، وتحديداً تلك المنحوتات الأقدم التي سبقت تحوّل الإسكتلنديين إلى المسيحية. لقد كان هناك تبادل كبير بين الإيرلنديين والإسكتلنديين. كان مصطلح «الإسكتلندي» يشير كذلك إلى الإيرلنديين قبل سنة 1200م. إنّ رموز الحيوانات التي وجدت في الأوراق مثل «كتاب دورو» أو «إنجيل إيخترناخ» مشابهة بشكل ملحوظ وكبير لتلك الرموز الموجودة على الأحجار البيكتية. والسؤال الذي يبقى مفتوحاً أمام البحث عن إجابة: متى تحوّل النحاتون الإيرلنديون من نحت الخشب إلى الحجارة الأكثر صعوبة.
- التأثير والتواصل:
من المهم أن نعلم بأنّ إيرلندا لم تكن جزيرة منعزلة عن بقيّة أوروبا رغم حقيقة عدم احتلال الرومان لها مطلقاً. كان هناك الكثير من التبادل التجاري بين الإيرلنديين وجيرانهم في الجزر البريطانية والقارة الأوربية. إضافة لذلك، وبدءأً من القرن التاسع ميلادي، كان هناك اتصال مع الغزاة والمستوطنين القادمين من الشمال، رغم أنّه في معظمه كان اتصالاً دموياً.
ومصطلح Insular «الجزيري» أو «المعزول» صاغه أوّل مرّة عالم الآثار الألماني عام 1901، ويبدو هو الأكثر ملائمة للدلالة على ثقافات العصر الوسيط المبكر في إيرلندا وإسكتلندا وويلز وإنكلترا بالمقارنة مع مصطلحات عرقية أو حدودية أو قومية غير منطقية مثل بريطانيا أو إيرلندا أو السلتيين أو الهيبرنو-ساكسون.
وبرأيي فإنّ الإرث الأهم للفن الجزيري في تاريخ الفن الأوربي هو المقاربة الجديدة للنصوص والتي دمجت النصوص بالصور بالزخارف. الزخرفة تحديداً هي العامل الأقل ذكراً في إطار تزيين النصوص القصصية، ونادراً ما يلعب دوراً مركزياً بالنسبة للمؤرخين الفنيين الذين تدربوا في الفن الأوربي الغربي. لقد تميّز الفن الجزيري بالاهتمام المفرط بالزخرفة، ففي عمل مثل «صليب مويرداخ العالي»، فإنّ جلّه مكرس لنحت الزخارف المجردة. أظنّ بأنّ هذا المجال سيكون منطقة منتجة للنظر إلى ثقافات أخرى بشكل أكبر اتساعاً. الثقافات حيث تلعب الزخارف دوراً رئيسياً في الفنون. وعندما أقول ثقافات أخرى، فأنا أفكر بالفنّ الإسلامي وحتّى بالفن الياباني، حيث يمكن للقواسم المشتركة أن تشكّل مجال نقاش مثمر عابر للحدود الجغرافية.