زمن مقبل لنظم تشغيل الكومبيوتر السياديّة

زمن مقبل لنظم تشغيل الكومبيوتر السياديّة

هل يكون نظام التشغيل الروسي الجديد «آسترا لينوكس» فاتحة لعصر النُظُم السياديّة لتشغيل الكومبيوتر؟ تنداح دوائر ذلك السؤال بمجرد قراءة إعلان روسيا أخيراً أن جيشها سيصبح معتمداً كليّاً على نظام التشغيل «آسترا لينوكس» الذي يصنع تحت الأعين القويّة للمؤسّسة العسكريّة (وهي مقعد أساسي في مفهوم سيادة الدول)، عبر مؤسسة وتولت تطويره «المؤسّسة العلميّة- الاستثماريّة روسبت تيك» RusBitTech. وبيّنت أنها وضعت خطة للاستغناء عن نظام «ويندوز» في الأجهزة الإلكترونيّة للجيش كلّها، بما فيها هواتف الخليوي والكومبيوتر المحمول ولوح «تابلت» الإلكتروني وغيرها. وسجّلت روسيا أنها أول بلد يخرج من السيطرة الواسعة لنظام «ويندوز» الذي تصنعه شركة «مايكروسوفت» العملاقة.

وفي التفاصيل، أنّ «روسبت تيك» تعمل منذ أواخر 2010 على تطوير نسخ متنوّعة من «آسترا لينوكس»، وتعطي لكل منها اسم إحدى «المدن الأبطال»، وهو لقب أسبغ على 13 مدينة في الحرب العالميّة الثانية، وصارت متوزّعة بين بلدان الكونفيديراليّة الروسيّة وشبه جزيرة القرم وجمهورية أوكرانيا، التي كانت ضمن تشكيلة الاتحاد السوفياتي السابق. وتحمل النسخة التي اعتُمِدَت في الجيش اسم «سمولسنك»، مع تذييل بمصطلح «نسخة خاصة» Special Edition.

الأهم تقنيّاً هو أن نُظُم التشغيل الروسيّة تلك، صنعت كلّها استناداً إلى نظام «لينوكس» Linux المفتوح المصدر والمجاني. ويعني ذلك أن مبرمجي الكومبيوتر الروس يستطيعون التحكّم بشيفرتها بالطريقة التي يرتأونها مناسبة. وأوضحت روسيا أن نسخة «سمولنسك» Smolnsek استوفت شروط الحماية الأمنيّة المعلوماتيّة بما يكفي لحماية الملفات المصنّفة في أعلى قائمة السريّة.

وربما يكون بديهيّاً أن يتابع نظام «سمولنسك» انتشاره في المؤسّسات الأمنية الروسيّة التي يشمل مداها البلدان المنضويّة في جمهوريّة «الكونفيديراليّة الروسيّة» كروسيا البيضاء وشيشينيا وغيرها. واستطراداً، ربما لا تكون مجازفة توقع انتشاره في قطاعات مدنية روسيّة، ما يفتح الباب أمام التسويق التجاري الواسع. ومع متانته الأمنيّة، ربما سعت مؤسسات وحكومات لتبنيه، خصوصاً مع المشكلات الواسعة المتكرّرة التي يعانيها نظام «ويندوز» لجهة الأمن المعلوماتي.

عولمة إلكترونيّة مضطربة

طريّة في الذاكرة تلك الخضة الكبرى التي هزّت العالم في أوائل صيف 2017، عندما استهدفت مجموعة (نسبتها الولايات المتحدة رسميّاً في أواخر العام نفسه إلى كوريا الشماليّة) الحواسيب التي تعمل بنظام «ويندوز إكس بي»، بفيروس الفدية «وانا كراي» (اختصاراً للاسم المزدوج «وانا ديكتوتر»- «إتيرنال بلو» Wanna Detector- Eternal Blue). وبأثر من الانتشار المعولم لنُظُم «ويندوز»، أصيبت الحواسيب على امتداد الكرة الأرضيّة بـ «وانا كراي».

وحُلّت مشكلته بطرق عدّة تضمّنت جهداً من أحد هواة الكومبيوتر وضع الاسم في خانة البحث عن اسم النطاق، ما أدى إلى اختفاء الفيروس من ملفاته. ثم عُمّمت تلك الخبرة. وأضيفت إليها رقعة أمنيّة ضد «واناكراي» عممتها «مايكروسوفت» التي تبيّن أيضاً أنها توقّفت منذ مدّة عن إمداد نظام «ويندوز إكس بي» بتجديدات أمنيّة لحمايته.

ضمن دروس كثيرة، عادت المقولة القائلة أن وجود نظام كومبيوتر يتفرّد بالانتشار المعولم، هو أمر له أخطار لا تحصى، منها أن اكتشاف أي ثغرة فيه، يؤدي إلى ضرر على مستوى معولم أيضاً! وأثبتت ضربة «واناكراي» صحة تلك المقولة.

وبقدر ما يفتح صنع نظام تشغيل مأمون وبديل الباب أمام منافسة معولمة، بمعنى التشارك مع «ويندوز» في الانتشار عالميّاً، فإنه يشير إلى آفاق أخرى. إذ إنّ نظام «لينوكس» له شيفرة مفتوحة ومعروفة، ما يعني أن كل دولة تستطيع أن «تقلّد» التجربة الروسيّة، فتصنع نظام تشغيل يكون تحت سيطرتها السياديّة. وفي تلك الحال، تستغني عن النظم ذات الانتشار العالمي سواء أكانت «ويندوز» أو «آسترا لينوكس» أو غيرهما.

ويضاف إلى ذلك، أنّ معظم الدول بات لديها خبراء في شيفرات الكومبيوتر، ما يجعلها نظريّاً في وضع يؤهلّها للخوض في المياه غير السهلة لصنع نظم تشغيل كومبيوتر سياديّة. وأبسط التحديات، يتمثّل في قدرة تلك النُظُم على التعامل مع الوثائق والملفات والمحتوى المصنوع تحت شيفرات «ويندوز» وتطبيقاته والبرامج التي تعمل استناداً إليه.

بديهي الاستدراك أن الأمور ليست بتلك البساطة. هناك اتفاقات معقودة بين «مايكروسوفت» ومجموعة من شركات صنع الأجهزة الإلكترونيّة من الأنواع كلّها، تفرض وضع «ويندوز» عليها. ويعني ذلك أن تخوض الدول مفاوضات مع شركات صنع الأجهزة الإلكترونيّة، إذا أرادت وضع نظام تشغيلها السيادي عليها.

أبعد من «سمولنسك»

أياً كانت التصوّرات بصدد المعطيات السابقة، الأرجح أنّ يصح وصف اعتماد روسيا نظام تشغيلها السيادي («سمولنسك») بديلاً لـ «ويندوز»، بأنه أول الغيث في سيل نظم تشغيل الكومبيوتر السياديّة، الذي ربما انهمر. هل يحتبس؟ هل لا يتجاوز الأمر الحدود الصارمة للمؤسّسة العسكريّة الروسيّة؟ هل يلاقي «سمولنسك» مصير نظام «ريد هات» Red Hat الذي حاول في 2003 منافسة «ويندوز»، وكان أيضاً مستنداً إلى نظام «لينوكس»، ثم ذهب إلى صحراء النسيان؟

في المقابل، هل تقود روسيا عولمة بديلة في صناعة الكومبيوتر، على غرار ما تسعى إليه الصين عبر «طريق الحرير الجديد» المعروف باسمه الشهير «حزام واحد، درب واحد»، أو حتى سعي روسيا نفسها لصنع عالم متعدد الأقطاب؟

في الإجابة على تلك الدروس المتعلقة بالعولمة ومتوازياتها في التكنولوجيا والسياسة سويّة، يمكن العودة بتأنٍ إلى التمعن في بعض الدروس المستقاة من ضربة فيروس «واناكراي»، الذي كان معولماً أيضاً. بحذر وتحدٍّ في قراءة ضربة فيروس «وانا كراي». ربما يفيد أن نتذكر التحدي العميق الذي رماه المفكر الفرنسي جان بودريار عندما قرأ ضربة الإرهاب في 11/9، بأنها صدام بين نوعين من الميتافيزيقا الشاملة. إحداهما عابقة برائحة تاريخ دين قديم (الإسلام)، فيما الأخرى ميتافيزيقا معاصرة حديثة محمّلة بملامح استيلاء الامبراطوريّة الأميركيّة على العالم عبر العولمة التي كانت آنذاك في عزّ اندفاعاتها.

وكشفت 11/9 زيفاً أصيلاً في وعود العولمة الورديّة، بل قلبت بطنها ظهراً.

وبذا، عاد النقاش عما جرى الصمت عليه طويلاً من توحشّ وتغوّل في الحداثة الغربيّة نفسه، خصوصاً عبر استعادة تاريخ من صراع الميتافيزيقا الإسلاميّة مع مشروع الحداثة الغربي الذي افترضت العولمة دوماً أنها وريثته البديهيّة. قدّم بودريار تلك القراءة المركّبة في كتابه «أبراج السلطة المحترقة: مرثيّة البرجين التوأمين- فرضية حول الإرهاب- عنف العولمة» الذي صدر في عام 2002. وأحدث هزّة في الصورة المبسطة والخادعة لضحية متقدّمة في الحضارة والعلوم، مقابل جلاد متخلّف يتنفس الماضي وحده فلا ينفث سوى إرهاب معادٍ للإنسانيّة.

أظهر الكتاب بين طرفي التصادم عند برجي التجارة هما متشابكان في العمق بأكثر مما توحي النظرة المبسطة لظواهر الأشياء.

* دروس من تجربة مؤلمة عن 2017

إذاً، لنرد الطرف مرّة أخرى إلى ضربة فيروس الفدية «وانا كراي». في ثناياه، تبرز العلاقة المعقّدة دوماً بين الإرهاب والاستخبارات في الدول التي يبدو أن الإرهاب يستهدفها! باختصار، صنع مكوّنا الفيروس على يد «وكالة الأمن القومي» الأميركيّة التي بات معروفاً أنها تمارس تجسّساً إلكترونيّاً على العالم بأسره، بل تخترق من الأجهزة والنظم والشبكات على مدار الساعة، بأضعاف ما فعل «وانا كراي» بل ربما جملة الضربات المشابهة وعمليات الاختراق التي تمارس في ما يعرف بـ «العالم السري/ السفلي للإنترنت»، وهو رمز مكثّف لعالم عولمة بديلة، لكن بمعنى سلبي تماماً. وثمة مفارقة كثيفة الدلالة: كانت الشريكة الرئيسة للوكالة الأميركيّة في اختراقاتها واجتياحاتها العالم هي نظيرتها البريطانيّة «القيادة الحكوميّة للاتصالات». وضرب «وانا كراي» بقسوة في البلد الشريك لمن صنع فعليّاً السلاح الذي استخدمه الإرهاب الإلكتروني، الذي هو ظاهرة معولمة بالتعريف. وهناك ثنية أخرى. لماذا صنعت «وكالة الأمن القومي» ذلك الفيروس؟ لأنها تريد اختراق كل الأجهزة التي تعمل بنظام «ويندوز إكس بي» الذائع الانتشار عالميّاً، في حال اضطرت إلى ذلك.

لندقق بالأمر، تملك الوكالة الاستخباراتية حقوقاً قانونيّة تستطيع فرضها في أي لحظة على شركة «مايكروسوفت» الأميركيّة، لكنها تفضل أن تصنع سلاحاً لتخترقها به. يكمن التناقض الهائل في تلك الصورة أن شركات المعلوماتيّة مثّلت السلاح الثقيل (ربما الأثقل) في العولمة المتوحشة التي قادها القطب الأميركي بداية من انفراده في قيادة العالم وصولاً إلى ما قبل لحظة انتخاب الرئيس الشعبوي دونالد ترامب.

وكشفت ضربة «وانا كراي» عن تناقض في قلب قيادة العولمة المتوحشة وأداتها الفضلى في نشر نفوذها عالميّاً، بل أن نشر نفوذ الشركات العملاقة هو ما دأبت على رعايته وحمايتها قوة القطب الأميركي. وفي ثنية ثانية، انتقل المكون الفيروسي المصنوع من القطب الأميركي وشركاته العملاقة، عبر موقع «ويكيليكس» المتسربل بعلاقات متناقضة مع الأقطاب المكوّنة لعالم العولمة المتوحشة. وتحمل العلاقة مع «ويكيليكس» صورة انهيار في قلب تلك العولمة عبر صعود القطب الروسي المتبرم بالهيمنة الأحادية لأميركا والساعي إلى فرض نفسه قطباً موازياً نسبياً، ضمن عولمة مغايرة.

تذكيراً، أليس معروفاً أن إرهاب 11/9 صنعته الدول التي ضربها. لنعد من دون حصر: أميركا التي قادت خيار تدفق الجهاد الإسلامي إلى أفغانستان الشيوعية، وإيران التي انتهزت السانحة لتمد خيوطاً مريبة مع ظاهرة الصعود الإسلاموي (بما فيها علاقتها مع «القاعدة»، خصوصاً عبر أيمن الظواهري)، وروسيا التي ما أن انقلب الميزان بين حركة «طالبان» وأميركا في لحظة 11/9 حتى صارت من رعاة «طالبان»، وهو أمر صار صريحاً حاضراً. ألا تستحضر صناعة مكوّنات «وانا كراي» ظلالاً كثيرة من ذلك التشابك الإرهابي؟ أليس في تلك المعطيات يحضر أنّ عالماً اختفى وعالماً بديلاً حلّ مكانه منذ لحظة 11/9؟

وهناك ثنية أخرى، هي الحضور الصيني. إذ طلبت الإرهاب الإلكتروني دفع فديات بعملة الـ«بتكوين» الرقمية المعولمة التي تروج بصورة خاصة في الصين، بل تلقى رعاية من عالم الأعمال المتشابك مع الدولة والممسك بالمصالح فعلياً فيها. وتسعى الصين أيضاً إلى فرض نفسها قطباً، خصوصاً عبر مشروع «درب الحرير الجديد» («الدرب والحزام») الذي يفترق عن العولمة النيوليبرالية المتوحشة بتشديده على الجغرافيا ومعطياتها، خصوصاً المتصلة بالدول وسيادتها. عند تلك الثنية، يعود الكلام مجدداً ليرسم صورة عالم حواسيب تدار بنظم تشغيل سياديّة! ألا يساعد ذلك أيضاً على تجديد دور الدولة في العالم المعاصر؟