هل التوحد مرض؟

هل التوحد مرض؟

نشرت دونا ويليامز عام 1991 مذكراتها بعنوان: «لا أحد لا مكان: المذكرات المثيرة لفتاة متوحدة». ذكرت دونا في هذا الكتاب الذي حقق نجاحات تجارية باهرة، بأنّها عندما تراجعت إلى الانعزال لم يكن السبب عدم فهمها للكلمات (بوصفه عدم فهم شائع)، بل لأنّها ببساطة لم تكن قادرة على وصل نفسها بهذه الكلمات، وهو ما أجبرها على «إطفاء» حسّها و«نظام المعنى لديها». وشرحت بأنّ الأصوات ذات الرنّة العالية واللمس والنور أصبحت أموراً «لا تطاق».

تعريب وإعداد: هاجر تمام

في التسعينيات، صنّف معظم العلماء التوحّد بأنّ مرض أو اعتلال عقلي، وتمّ التركيز على إيجاد طريقة للقضاء عليه. طوّرت عالمة النفس البريطانية لورنا وينغ التصنيف السريري له منذ الستينيات، وعلق فيه منذ ذلك الحين. لقد ادعت بأنّ المتوحدين لديهم «اعتلال» في ثلاثة مجالات: في التفاعل الاجتماعي وفي التواصل وفي المخيلة. وقد استخدمت طرق متعددة لتحديد هذه «الاعتلالات»، بدءاً من الأحاجي التركيبيّة والألعاب والشهادات العائلية. حتّى أنّ علماء النفس والأعصاب وصلوا إلى محاولة تطوير تدخل سلوكي سريع، وكذلك إلى محاولة البحث عن «جين التوحّد». لكنّ موضة التوحد الجيني زالت بسرعة بعد أن أثارت الكثير من الضجيج حولها.

لقد حدد نموذج «الاعتلال» التوحدي علم النفس البشري بطريقة واضحة ومحددة بشكل غريب. لقد غطّت واحتوت ناحية هامّة من الهويّة البشريّة، لكن بشكل اصطناعي. ففي الوقت الذي تحدّت فيه ويليامز هذا الوضوح الزائف للنظرة العلميّة، فإنّ حركة «التنوّع العصبي» العالميّة قد شكّلت نفسها على الإنترنت، حيث هاجمت فكرة أنّ التوحّد «مرض» أو «اعتلال». جادل جيم سنكلير، المؤسس المشارك لمجموعة «شبكة التوحّد العالميّة»، بأنّ معظم الناس كانوا مجرّد «نموذجيين عصبيين neurotypical»، وبأنّ المجتمع الأكبر يجب ألّا يتعامل مع المتوحدين بوصفهم مرضى أو غير طبيعيين. وقال عالمة النفس الأسترالية جودي سينغر بأنّ هذه الاختلافات العصبيّة بين المتوحدين والعاديين هي مجرّد «تنوّع عصبي» مؤهل لتشكيل مجموعة متمايزة مثل تلك التي تتشكل بناء على العرق أو الجنس. وجادل الكثير بأنّ مقاربة التوحّد لا يجب أن تنطوي على «إزالته» بل على جعل المجتمع ككل أكثر شمولاً.

  • النعت النفسي غير المحايد والإصرار على الإحصاء:

من المغري أن ننظر إلى علم النفس على أنّه سمة محايدة في الوجود، ولكن الواقع يدلّ على أنّه مرتبط بالتاريخ وبالسياسة. لطالما تحدّث المؤرخون عن تشابك التشخيص مع البيئة الاجتماعية والسياسية التي يتمّ فيها. مثال: تمّ تشخيص «الهيستيريا» في سياق التوصيف المخجل لها في القرن التاسع عشر. تمّت بلورة فكرة «الذكاء» كجزء من تثوير النظام التعليمي في بداية القرن العشرين.

لقد خدمت تعريفات واختبارات الذكاء أغراض صعود البيروقراطية المزدهرة مع الرأسمالية، والمتزامنة مع ضعف الروابط العائلية وفقدانها للسطوة والتأثير، وذلك بهدف تصنيف وتقسيم أنواع الأطفال من أجل توجيه التعليم وأجهزة الرعاية المؤسساتيّة.

ورغم أنّ كلمة «توحّد» يعود الفضل في صياغتها لعالم النفس الأمريكي ليو كانر في عام 1943، فإنّ التوحّد قد تمّ وصفه قبل ذلك بكثير. فقد وصف عالم النفس التطويري السويسري جان بياجيت مع زملاءه العديد من حالات «التوحّد» في العشرينيات، معتبرين التوحد نوعاً من التفكير «الرمزي» تهيمن فيه التخيلات والهلوسة على أفكار الفرد، وتؤثر على قدرته على التفكير بشكل منطقي بما يخص المجتمع. ولم يكن تفكير كانر مختلفاً بعد عقدين عندما اعتبره نوعاً من «القصور العقلي».

ولم تبدأ التحليلات بالاهتزاز والاختلاف إلّا في ستينيات القرن العشرين. وانتشرت بعضها موضة محاولة تحديد أعراض التوحّد، خاصّة مع مشروع وينغ ولوتر، مصرّة على تحديد كمي لهذا المرض. لكنّ المهم في هذه النقلة هي أنّ التوحد لم يعد مرض، بل إعاقة أو فقداناً للقدرة أو للتفكير. ليستمرّ هذا التشخيص بخدمة أهداف سياسية واجتماعية معينة هي اليوم محلّ هجوم.

  • تشخيص التوحّد يتزامن مع التغيرات:

تمّ في السبعينيات في معظم أماكن العالم الغربي عمليات لإغلاق المؤسسات الكبرى التي تديرها الدولة. وبالتالي بات على جميع الأطفال الذين كانوا يدخلون إلى نظام تعليمي موحد، أن ينقسموا لتلقي خدمات منفصلة تتماشى مع احتياجات الأفراد الخاصة. بدأ عند ذلك علماء النفس، أمثال جون باولبي ودونالد وينيكوت في بريطانيا، بالتركيز على دور الأمهات، وقاموا بإلقاء اللائمة بشكل واضح على الأمهات في مشاكل أطفالهم. وبدأ البحث عن «جين التوحد» هذا.

لقد بات بعدها وصم طفل بأنّه متوحد يعني بأنّ عليه أن يتلقى تعليماً ودعماً خاصاً يشرف عليه أطباء نفسيون. وكان أيّ صوت مقاوم لهذه الموضة يعني بأنّ أصحابه لا يبذلون عناية كافية وبأنّه أخرق ويجب إسكاته.

واستمرّت أساطير الحاجات الخاصّة بالازدهار لكونها شكلت أداة ممتازة لتفكيك دول الرفاه في ثمانينات وتسعينيات القرن العشرين. لقد حملت النيوليبرالية لواء حاجة المتوحدين لتعليم ودعم خاص لكونها تشجّع الأفراد على البحث في السوق عن منتجات خاصة بهم لا يمكن لدول الرفاه أن توفرها لهم. ولكن قام بعض علماء النفس، وأهالي المتوحدين، بالتذرع أيضاً بأنّ هذه الاحتياجات الخاصة لا يمكن إيجادها أو تأمينها بشكل سوقي، وبالتالي يجب على الدولة أن ترعاها دون غيرها، وبالفعل حمى هذا الحجاج مجموعات معينة أثناء تدمير دول الرفاه.

  • يجب مهاجمة الأساطير وليس الخدمات العامّة:

إنّ الكثير من دعاة التعدد العصبي اليوم يعيدون نبش القصص التي تساند الفرديّة ويشككون بها، ولكن لسوء الحظ فأغلبهم يقوم بذلك مع شنّ الهجوم على الخدمات العامة التي توفّر دعماً خاصاً للمتوحدين.

ليس أمر التوحد ظاهرة متناقضة، بل هو مجموعة من الأوصاف التي ارتبطت بالسياسة. وبناء عليه، فإنّ التاريخ يعرض علينا درساً يجب علينا تعلمه بتواضع: يستحيل قياس وتصنيف وتعداد أوجه معينة من علم النفس البشري، دون أن يتمّ أيضاً إسكات القدرة على رواية القصّة بشكل مختلف.