قصّة اللدونة الدماغيّة
علينا كي نروي قصّة اللدونة الدماغيّة «adaptive plasticity»، (وهي التغييرات الهيكليّة في الدماغ التي تعزز نجاحنا وبقائنا على قيد الحياة، وذلك نتيجة ارتباط الهرمونات المنتشرة في الدماغ بالمُستقبلات العصبيّة بالاشتراك مع الناقلات العصبيّة الخاصة بالدماغ. لمزيد من المعلومات انظر مقال: العمل والرياضة وتلف الدماغ – قاسيون)، أن نصف كيف تؤدي نفس نوع الضغوطات إلى تقلّص التغصنات العصبيّة «dendrites» (مثل أغصان الشجر وعليها نتوءات عصبيّة تشكّل مواقع تشابك واتصال بالعصبونات الأخرى) وإلى فقدان نتوءات التشابك العصبي الموجودة في قشرة الفصّ الجبهي «prefrontal cortex» وفي الحصين «hippocampus». تأتي الإجابة من سومانترا تشاتارجي، البروفسور في المركز الهندي الوطني للبيولوجيا في بانغالور، وفريقه: تنمو التغصنات في اللوزة القاعديّة-الفرعيّة «basolateral amygdala»، وهي مكان الخوف والقلق والمشاعر الشديدة، وتصبح أكثر تشعباً، ممّا يزيد الشعور بالقلق.
تعريب: عروة درويش
وجد الباحث ليستون بأنّ التغصنات في الجزء المداري-الجبهي «orbitofrontal» من قشرة الفصّ الجبهي تتوسّع أيضاً، ممّا يؤدي لزيادة الحذر. قد تكون هذه التغييرات، على المدى القصير، تكيفيّة، ذلك أنّ القلق والحذر يمكن أن ينفعونا أثناء حالات الخطر أو تلك التي لسنا واثقين منها. لكنّ إن انتهى التهديد وبقيت الحالة السلوكيّة «عالقة» واستمرّت جنباً إلى جنب مع التغييرات في الدوائر العصبيّة، فإنّ عدم التكيّف في مثل هذه الحال يتطلّب التدخّل لفتح «نوافذ اللدونة» بمزيج من العلاجات الدوائيّة والسلوكيّة.
يمكن للنشاط البدني المُنتظم أن يعزز سيطرة كلّ من قشرة الفصّ الجبهي والحصين على اللوزة المخيّة. يعني هذا بأننا سنكون أكثر قدرة على السيطرة على المزاج والعواطف وعلى الغرائز، وأكثر كفاءة في اتخاذ القرارات. وهناك مقاربة أخرى للقلق المزمن هي: «تقليص التوتّر القائم على الانتباه MBSR»، والتي تؤدي إلى تقليص اللوزة في بعض الحالات. لقد اكتسب كلا MBSR والتأمل شعبيّة بوصفهما طريقة للتقليل من القلق، وبالتالي التقليل من التوتّر.
لبعض الأبحاث أيضاً تطبيقات على اضطراب توتّر ما بعد الصدمة «PTSD». وجد تشاتارجي بأنّ ضاغط صدمة واحد قد يقود إلى تشكيل نتوءات اشتباك عصبي جديدة في اللوزة القاعديّة-الفرعيّة بعد أسبوع أو اثنين من حصوله. ويترافق ظهور هذه النتوءات الجديدة مع الزيادة المطردة في القلق. هذا النوع من التأخير هو من سمات توتّر ما بعد الصدمة. لقد أظهر تشاتارجي بأنّ ارتفاع الكورتيزول المتزامن مع ضاغط الصدمة، أو الذي يحدث بعد فترة قصيرة منه، يمنع في الحقيقة أو يؤخّر زيادة نتوءات الاشتباك العصبي في اللوزة المخيّة. هناك الآن أدلّة على أنّ مستويات الكورتيزول المنخفضة أثناء الصدمة، مثل جراحة قلب مفتوح أو بعد حادث مروري، هو عنصر خطر، وبأنّه يمكن لرفع مستويات الكورتيزول أثناء أو بعيد الصدمة أن يقلل من أعراض التوتّر التالي لها.
كما تُظهر أبحاثنا وغيرها بأنّ تأثير التوتّر السام (يقوم التوتّر السام بزيادة اهتلاك الجسم بتحميله فوق طاقته نتيجة اختلال توازن الوسطاء الكيميائيين-الحيويين مثل الأدرينالين والكورتيزول، وبقاءها نشطة في الجسم أكثر ممّا ينبغي – لمعلومات أكثر انظر مقال التوتّر السام – قاسيون) يختلف بين الجنسين. فالنساء أكثر عرضة للاكتئاب بعد تعرضهن للتوتّر السام، في حين أنّ الرجال أكثر عرضة للاستجابة عن طريق سلوكيات وأفعال غير مقبولة اجتماعيّاً. لقد وجدنا بأنّ هناك مُستقبلات لكلّ من الأستروجين والأندروجين والبروجستين لدى دماغ الذكور والإناث، مهمته تنظيم الذاكرة والألم والحركة المتناسقة وغيرها من الوظائف الحاسمة. لكن بفضل الاختلافات الجنسيّة الجينيّة المبرمجة مسبقاً في أدمغتنا، يستجيب الرجال والنساء بشكل مختلف للتوتّر. تحدث هذه الاختلافات عبر الدماغ وليس فقط في المناطق التي تشارك في عملية التكاثر، مثل ما تحت المهاد «hypothalamus». في الواقع تشير دراسة حديثة إلى أنّ استجابة الذكر والأنثى، على المستوى الجزيئي والجيني، للتوتّر في الحصين يمكن أن يختلف بشكل صارخ. من المؤكد بأنّ الدراسات عن نشاطات دماغ الرجال والنساء تظهر أنّ كلا الجنسين يقومان بالكثير من الأشياء المتماثلة بذات الطريقة، لكنّ استخدام دوائر دماغيّة مختلفة إلى حدّ ما للقيام بتلك الأشياء، يعطي بعض المصداقيّة للاختلافات بينهما من حيث الاستجابة.
يلدغنا التوتّر بشكل مختلف أيضاً بالاعتماد على خبراتنا في وقت مبكر من الحياة. فتح مايكل ميني، البروفسور في جامعة ماكغيل، الطريق لإظهار الدور الهام لرعاية الأمهات في فترة ما بعد الولادة وتأثيره على التطوّر العاطفي والمعرفي. الفئران الرضّع الذين ربتهم أمّ ترعاهم طوروا انفعالات عاطفيّة أقل وقدرة أكبر على استكشفا أماكن وأشياء جديدة. أمّا الذين تربوا مع والدة متوترة تزودهم برعاية غير متسقة، قد أظهروا نتيجة معاكسة.
يلعب التخلّق «epigenetics» (العمليّة التي تسيطر على سيماء الجينات دون تغيير الشيفرة الوراثيّة) أيضاً دوراً. يتضح ذلك في الدراسات التي تبحث في تبديل الرضع بين الأمهات الجيدات والأمهات السيئات. يغيّر تبديل الرضّع والأمهات النتائج، ممّا يشير إلى ما نسميه الآن بالانتقال السلوكي التخلّقي.
نحن نعلم الآن بأنّ البدانة لدى الأب أو الأم، حتّى قبل الحمل أو أثناء تشكّل الحياة في الرحم، يمكن أن تؤثر على الطفل. قد ينطوي هذا على تغييرات تخلّقيّة في الحمض النووي وفي النطاف وفي البيضة بحيث لا تتغير الشيفرة الوراثية، ولكن يمكن التنبؤ بها. تزيد بدانة أحد الأبوين خطورة أن يصبح الطفل بديناً. النساء اللواتي يفقدن الوزن قبل الحمل لا ينقلن البدانة إلى أطفالهن، بينما تضع أولئك اللواتي يبقين بدينات أثناء الحمل أطفالهن في هذا الخطر.
تؤثّر تجارب الحياة المبكرة السلبيّة التي تنطوي على الفقر والإساءة والإهمال على الكيفيّة التي تعبّر فيها الجينات عن نفسها، وتحدد مدى تطوّر وفاعليّة مناطق الدماغ مثل الحصين واللوزة وقشرة الفص الجبهي. بكل تأكيد فإنّ الدماغ يتغيّر باستمرار مع الخبرات الجديدة، وهو ما يخلق ذكريات ويغيّر بنية الدماغ عبر آليات يتم تسهيلها بشكل جزئي من قبل دورة هرمونات الجنس والتوتّر والأيض، والمواد الكيميائيّة التي ينتجها الجهاز المناعي.
لقد قاد هذا المنظور إلى ظهور مجال دراسة جديد يُدعى «تنمية الحياة الصحيّة على طول الحياة LCHD». يركّز هذا المجال على أهميّة الأحداث ما قبل الحمل والتي تحدث أثناء تشكّل الحياة في الرحم، بسبب قدرتها على توليد تغيرات تخلقيّة. ولذات السبب، تتطلّع LCHD إلى التأثيرات التي يحدها الدخل والتعليم والإساءة.
تحدد التغيرات التخلقيّة مسارات الصحّة والأمراض ولدونة الدماغ، لكنّها أيضاً توفّر فرصاً لتغيير هذه المسارات بينما تستمرّ الحياة.
لا يمكننا أن نعيد عقارب الساعة إلى الوراء على الإطلاق من أجل عكس آثار الخبرات، سواء الإيجابيّة أو السلبيّة منها، أو تغيير التخلقات الجينيّة التي تنتجها. لكن بإمكاننا أن نتحرّك في إطار خبراتنا من أجل التعافي وإعادة التوجيه. يمكننا أيضاً أن نطوّر القدرة على التكيّف من خلال التغييرات التخلقيّة. يمكن للمسارات الجديدة أن تحدث تغييرات تعويضيّة في الدماغ والجسم على طول الحياة، إذا ما توافرت لها الفرصة لإحداث هذه التغييرات.