لماذا ننسى؟
رغم أنّ الدماغ البشري يحوي قدراً مذهلاً من مساحة تخزين الذكريات، فهو لا يبقي كلّ ذكرى إلى أجل غير مسمّى. نحن نميل إلى نسيان الذكريات التي تشبه بعضها البعض، ونتذكر بدلاً عنها الأحداث والمعلومات الأحدث. في الحقيقة، النسيان مهم لأنّه ييسر لنا مسألة استدعاء الذكريات الجديدة.
تعريب: عروة درويش
في واحدة من الدراسات، قمت مع زملائي بعرض 2800 صورة لأشياء عاديّة على المشاركين، مثل حقائب ظهر أو محمصة، وذلك لمدّة ثلاث ثوانٍ لكلّ صورة. ثمّ أريناهم في وقت لاحق مئات الصور التي تحوي على وحدتين من كلّ شيء، وسألناهم عن أيّ من هذه الصور قد شاهدوها محتوياتها سابقاً. كنّا نختبر ذكرياتهم بشكل تفصيلي، مثال: كنّا نسأل إن شاهدوا الخبز في الصورة، وعليه حبّات سمسم أم حبّة البركة. تذكّر المشاركون الصور الصحيحة بنسبة 78% من المرّات، عندما كانوا يشاهدون نوعاً واحداً من الأشياء فيها (مثال: نوع واحد من الخبز في الصورة). ومع ذلك، عندما كانوا يشاهدون الكثير من الأشياء المتشابهة، لنقل 16 قبعة، كانوا أكثر عرضة لنسيان التفاصيل المميزة، ولأن يتذكروا الغرض الصحيح فقط 64% من الوقت.
ورغم أنّ النسيان قد يكون مزعجاً، فقد يساعدنا على التعلّم في بعض الأحيان. أجرى الباحثون في جامعة كولومبيا دراسة عام 2007، أظهرت بأنّ الفئران المعدلة وراثياً التي لا يمكنها أن تُنشأ عصبونات جديدة في الحصين (Hippocampus)، وهي المنطقة من الدماغ التي تشترك في تخزين الذكريات، يمكنها أن تؤدي مهام متعلقة بالذاكرة بشكل أفضل من تلك التي يمكنها تكوين عصبونات جديدة كالمعتاد.
لا يتطلّب تعلّم معلومات جديدة عصبونات جدد، بل يتطلّب ببساطة أن تقوم العصبونات الجديدة بالاتصال ببعضها بطرق جديدة. لكنّ تخزين الذكريات يحتاج القدرة على خلق عصبونات جديدة. ولهذا فإنّ الفئران المعدلة وراثياً لا يزال بإمكانها أن تتعلّم معلومات جديدة، مثل آخر موقع وجدت فيه الطعام داخل متاهة، لكن لم يكن لديها ذكريات قديمة عن المكان الذي تمّ فيه إخفاء الغذاء لتتداخل مع الذكريات الجديدة. وعليه، فإنّ النسيان يساعدنا على التذكر.
لكنّ هذه التجربة توفّر لنا دليلاً قاطعاً على أنّ الكمّ الهائل من المعلومات التي نحملها في ذاكرتنا، هي معلومات دقيقة في نهاية المطاف. فنحن في الواقع نحوز في أدمغتنا تمثيلات للأشياء التي رأيناها بشكل تفصيلي ودقيق إلى حدّ ما. وهذا يثير السؤال التالي: إن لم تكن ذكرياتنا مبهمة ومشوشة، فلماذا ننسى غالباً تفاصيل الأشياء التي نريد تذكرها؟
أحد التفسيرات: رغم أنّ الدماغ يحتوي على تمثيلات تفصيليّة للكثير من الأحداث والأغراض المختلفة، فلا يمكننا دوماً أن نجد تلك المعلومات عندما نحتاجها. وكما تبيّن الدراسة، فغالباً ما نستطيع أن نكون دقيقين وتفصيليين جدّاً في كوننا قادرين على تمييز رؤيتنا للشيء من قبل، من عدمه. فإن كنّا في متجر للألعاب ونحن نحاول أن نتذكّر الصورة التي أشار لها ولدنا لرغبته بالحصول عليها في عيد ميلاده، فنحن بحاجة لنكون قادرين على البحث طواعية بين ذكرياتنا لنجد الجواب الصحيح، دون أن يحثنا محفّز بصري على ذلك. يبدو بأنّ هذه الآليّة الطوعيّة للبحث بين الذكريات، هي التي تتعرّض للتداخل والنسيان. أو هذا ما سنتذرّع به عندما نصل إلى المنزل وبيدنا غير ما طُلب منّا.