نأكل ممّا نزرع
يعود فشل الإنتاج المعاصر للغذاء إلى طبيعة نظامنا الاقتصادي الذي يعتبر كلّ شيء وكلّ شخص مجرّد سلعة. لا يجب أن يكون الأمر على هذه الحال.
تعريب: هاجر تمام
بينما كنت أنظر في الأفق وأدوّر الأفكار في رأسي، كانت كارين تبحث عن الفراولة/الفريز البري، وهي التي يمكنها أن تكتشف أماكنها ببراعة. تتذكر وهي تقطف ما يكفي والدتها لتصنع بعض المربّى، العمل الشاق عندما كانت تقطف حبّات الفريز وهي طفلة صغيرة.
عندما يكون كل المتاح لك لتجده في محالات البقالة هو الفريز الكبير الحرشي الذي لا طعم له، فإنّ شعور وضع الفريز البري في فمك سيكون بمثابة انكشاف الوحي لك. إنّها هدية حلوة وحامضة ورائعة وكاملة من الأرض. إنّها تترك رائحة عالقة في أصابعك، إنّها رائحة الفريز.
لقد وجدنا الكثير من الفواكه أثناء نزهتنا: فريز وتوت وعنب وكرز وكشمش وعنبيّة وتفاح وخوخ وليليكو (فاكهة الشغف) وجوافة وليمون صغير وكبير. بعض ما وجدناه هو بريّ مثل التوت، أمّا البقيّة فقد تم زرعها ولم تزهر إلّا بعد أن تمّ هجرها.
لا يمكن لرؤية وتذوّق هدايا الطبيعة هذه إلّا أن يدفعك إلى التفكير في الطعام الذي يأكله أغلبيتنا: معالج كليّاً ومليء بالملح وزيت مهدرج وشراب الذرة عالي الفركتوز، مشبع بالمبيدات والمواد الكيميائية، ينمو في المزارع الصناعية، ويتم التعامل معه مثل باقي المنتجات المصنعة في خطوط إنتاجيّة والتي تستهدف إبقاء الواحدة منها منخفضة التكاليف وذات ربحيّة عالية. تتم زراعة محاصيلنا وحصادها من قبل عمالة سوداء وملونة ذات أجور زهيدة وتعيش في أكواخ وخيم. يتم تسميمهم بشكل يومي هم وأطفالهم، ويعملون كلّ يوم، ومعدل حياتهم منخفض لا يتعدّى الخمسين عاماً في الولايات المتحدة. وينطبق ما أظهره إدوارد مورو في الوثائقي "حصاد العار" عام 1960 على جميع عمّال الزراعة في أيّ مكان في العالم.
إنّ أحد المكونات الأساسيّة في إنتاج المواد الغذائية هو التربة، وهي [خليط المعادن والمواد العضوية والغازات والسوائل والكائنات الحيّة التي لا تعدّ ولا تحصى، والتي تدعم بمجموعها الحياة على الأرض]. يتطلّب الغذاء التربة والعمالة، وكما ينبغي أن يكون واضحاً، فلطالما كانت علاقتنا بالتربة إحدى سمات الوجود الإنساني. لقد اتصلنا بالتربة أثناء أغلب الوقت الذي قضيناه على الأرض بطريقة متكاملة ومستدامة، حيث كنّا نعتني بها لنستطيع الاستمرار بحصاد هداياها. لقد تعلمنا أثناء إنتاج قوتنا، وطورنا إدراكاً أكبر لكيفيّة حمل الأرض لخيراتها. وفي حين أننا قمنا بأخطاء أدّت إلى كوارث في بعض الأحيان، فقد عشنا بوئام نسبي مع التربة ومع كامل العالم الطبيعي.
بالنظر إلى ماضينا – أكثر من 100 ألف سنة – فمن المدهش أننا اليوم، مع ما نمتلكه من معرفة علميّة وبراعة تكنولوجيّة وثروة، نهدر التربة بشكل متهوّر. نحن نكرس أقل فأقل لإنتاج الأغذية، وأكثر فأكثر للمدن الضخمة وللضواحي التي لا نهاية لها وللمدن الخارجية. نستخدم الأرض التي يفترض بنا الاحتفاظ بها لزراعة الغذاء من أجل زراعة الذرة وفول الصويا المستخدمين في علف الحيوانات وللوقود الحيوي.
وفي [الجنوب العالمي]، يفقد الفلاحون أراضيهم لصالح المضاربين الأثرياء الذين يملكون مساحات هائلة من الأراضي التي يتركونها خاملة بانتظار ارتفاع الأسعار. نقوم في كلّ مكان بقطع الأشجار وببناء سدود ضخمة وبالسماح للزراعة الصناعية بتلويث الهواء والمياه والأرض.
لقد أفسدنا التربة حتّى فقدت مرونتها الماديّة وقدرتها على إعادة الازدهار والتجدّد، حيث باتت مثل شريط مطاطي أفرطنا في شدّه، من غير الممكن إعادته إلى حالته الأولى. لقد اختفى التوائم الطبيعي الذي كان سمة للبشريّة في يومٍ ما. لقد حلّت الغطرسة محلّ الهيبة التي أحطنا فيها الأرض ومحلّ الحب الذي شعرنا به تجاهها. إنّها الغطرسة التي تعني بأننا سنفعل أيّ شيء يعجبنا، وإن لم يكن يعجب ذلك الأرض فهذه مشكلتها.
إنّ تعاملنا مع الأرض ومع التراب تحت قدمينا مرتبط بشكل مباشر بنظام إنتاجنا للأغذية. تظهر الملوثات التي نضعها في التربة في بقالياتنا. وتعود أعمال الزراعة الصناعية الحقيرة لطبيعة نظامنا الاقتصادي الذي يجبر كلّ شركة عملاقة وكلّ رجل أعمال على التنافس وعلى اعتبار كلّ شيء وكلّ أحد سلعة. اشتري بسعر زهيد ثم قم بالبيع بسعر ثمين... هذه هي العبارة التي تحرّك كامل حياتنا.
ليس هناك نهاية للدعاية التي تنكر هذا: [الثورة الخضراء] وإعلانات البذور المعدلة وراثياً (حتّى تايسون تدعي إنتاج دجاج عضوي في إعلان يجعلنا نظنّ بأنّ الشركة هي وكيلة الأرض) والتقارير المضللة الصادرة عن المنظمات غير الحكوميّة والمنظمات المالية العالمية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. إنّ كنّا سنعتبر هذه الدعاية حقيقة، فسوف نستنتج بأنّ العالم لم يكن يوماً أكثر إنتاجيّة وصحّة وسعادة.
لكنّ الواقع مختلف عن ذلك إلى حدّ كبير. لقد أخفق إنتاج الأغذية الحديث بشكل كلي. هناك ما لا يقل عن مليار شخص حول العالم يعانون من نقص التغذية، والزراعة الصناعية تسهم بشكل كبير في الارتفاع الحراري العالمي، وتسبب الفوضى في عمليات استقلاب الطبيعة. تشير الأدلّة الأخيرة إلى ارتفاع مستويات ثاني أكسيد الكربون، وإلى احتواء السلع الغذائية الرئيسيّة على سكر أكثر ومغذيات أقل، وهو ما يؤدي إلى المزيد من البدانة والقليل من الصحّة.
تعزز الزراعة الصناعية للشركات أيضاً الزيادة الملحوظة في اللامساواة في الدخل والثروة في كافّة الدول تقريباً. الذين يزرعون طعامهم يحصلون على تغذية لائقة وصحّة جيدة، أمّا أولئك الذين لا يفعلون فلا. الذين يزرعون الغذاء من أجل بيعه يعانون، بينما يزداد الذين يبيعون هذا الغذاء ثراء. ممّا يزيد الأمور سوءاً أن أولئك الذين يملكون السلطة لا ينفكون يخبروننا بأنّ العلاج الوحيد لمشاكلنا التي يعترفون بها هي المزيد من مسببات المشاكل: المزيد من الكيماويات والمزيد من البذور المعدلة وراثياً والمزيد من ضمّ الأراضي.
لا يجب أن تكون الأمور على هذه الحال. نحن نعلم بالفعل كيفيّة التعامل مع التربة باحترام، وكيفيّة الإنتاج العضوي، والتعامل مع المزارع الصغيرة نسبياً، وتقنيات استعمال الأرض وإدارتها بتوائم مع بيئة مستدامة. نحن نعلم من الأمثلة حول العالم، وخاصة في كوبا، كيف نغذي السكان المدينيين بالأغذية التي تزرع في ذات المدن. هناك تعاونيات غذائية تدار بشكل ديمقراطي وليس رأسمالي، تجمع بين إنتاج الأغذية وتوزيعها بما يخدم المجتمعات المحلية. نحن نعلم كيفيّة إجراء بحوث نافعة اجتماعياً بحيث تظهر ما الذي ينفع وما الذي لا ينفع. إن تمتعنا بالإرادة اللازمة، يمكننا أن نقلل من الاحتباس الحراري بشكل كبير.
إن فعلنا هذه الأمور، فسنصبح أكثر وعياً بضرورات ردم الهوّة الإيكولوجيّة التي تهدد وجودنا في الوقت الراهن، ولا سيما الهوّة بين المدينة والريف الذي شكّل عالمنا المعاصر، مع مناطق ريفيّة معدمة من جهة، ومدنٍ هائلة من طرف آخر. إنّ أعمالنا ستشكّل بدورها وعينا وستساعدنا على بناء عالم أكثر عموميّة.
أن تقول بأنّ أمراً ما يجب أن يحدث شيء، وأن تؤمن بأنّه سيحدث شيءٌ آخر. ربّما من الأسهل علينا أن نتصوّر أنّ الشمس ستصبح أبرد وبأنّ النظام الشمسي يموت من أن نتفاءل بأنّ البشريّة ستقوم بالأمر الصائب. كلّ ما يمكنني فعله هو أن أحاول قول الحقيقة. وتذكروا الفريز البري أملاً بأنّ تعود الأرض ذات طعم ورائحة وشعور حي مثلما كانت سابقاً.