البحث عن أوّل نار بشريّة
توافقت هلوبيك ورانغهام بأنّ السيطرة على النار قد تكون هي الشيء الذي حدث
آمبر دانس آمبر دانس

البحث عن أوّل نار بشريّة

يبقى السؤال عن كيف ومتى برع أسلافنا في إشعال اللهب سؤالاً جدلياً ساخناً. يسعى الباحثون لاكتشاف الإجابات المدفونة في الرماد القديم والتربة المحترقة

تعريب وإعداد: عروة درويش

تقوم عالمة الآثار سارة هولبيك كلّ صيف برحلة على المسارات الترابية باستخدام العربة، إلى النهر الجاف في كينيا، لتتبع بشكل تقريبي خطوات البشريين "الهومينينز – Hominines" الذي مكثوا هنا منذ 1.6 مليون عام. قام أولئك البشريين في الغالب بسلخ الحيوانات وتشكيل الأدوات الحجرية. وتظنّ هلوبيك، وهي خريجة جامعة روتجرز في نيوجرسي، بأنّهم قاموا بذلك حول نيران متأججة. تجمع هلوبيك في رحلتها الصيفية بعض العظام المحترقة وعينات من التراب على أمل إثبات نظريتها.
إنّ سؤالها أساسيّ حول التكنولوجيا المستخدمة بوقت مبكر والحاسمة: متى قامت البشرية بإيقاد النار أوّل مرّة لاستخدامها بانتظام للتدفئة والطهي؟ لا يمكن لهلوبيك وغيرها من علماء الآثار الذين ينقبون في الرماد البارد الذي احترق منذ فترة طويلة، أن يحددوا ذلك بشكل يقيني. ربما لم يكن ذلك في وقت أبكر من مليوني سنة مضت، ولكن من المؤكد أنّه حدث قبل ثلاثمائة ألف عام. هذا يتركنا أمام فجوة كبيرة، وأمام الكثير من التحقيقات.
إنها مسألة صعبة ومخادعة ليبتّ بها. يقول مايكل تشازان، مدير مركز الآثار بجامعة تورونتو: "علينا أن نعمل بكدّ شديد جدّاً من أجل العثور على النار المبكرة". الأدلّة على النار سريعة الزوال: عادة ما تكون آثاره، سواء بشكل رماد أو تربة محترقة، متآكلة بفعل الرياح أو الماء. حتّى عندما تكون علامات الحرق المحتملة موجودة، فإنه من الصعب جدّاً أن نفهم أصلها بالضبط. خلص الباحثون مؤخراً إلى أنّ الأخشاب القاتمة المحترقة والرواسب الحمراء التي عُثر عليها في أحد المواقع في شمال ألمانيا، في منجم للفحم يدعى شونينغين، كانت ملونة حقاً بفعل التعرّض للمياه وتحلّل التربة، وليس بسبب النيران القديمة. حتّى لو كان الدليل على النيران أكثر تأكيداً، فقد يكون من الصعب تحديد إن كان الحرق ناجماً عن حريق طبيعي أو شرارة من صنع الإنسان، أو إن كان الناس قد لمّوها من حريق قريب من أجل استخدامها. والأكثر صعوبة في فكّ هذه الشيفرة هو إن كان الناس يستخدمون تلك النيران "بانتظام"، وإن كان ذلك يعني بشكل أسبوعي أو سنوي أو كلّ عقد.
يكمن هذا السؤال في جوهر معنى أن تكون إنساناً: النار هي إحدى الأشياء التي دفعت التطوّر البشري قدماً. عنى تحميص المواد الغذائية الحصول على حمية غذائية مليئة بالسعرات الحرارية، وهو ما غذّى أدمغتنا الكبيرة سامحاً لها بالنمو. ساعدت النار على توفير الحماية من الحيوانات المفترسة، والدفء الذي سمح للبشر بتوسيع نطاق امتدادهم الجغرافي. بالإضافة إلى أنّ إشعال النار والتجمّع حولها قد ساعد على تشكيلنا كما نحن الآن كحيوانات اجتماعية. قد تعين معرفة متى أشعل الناس النار علماء الآثار على اكتشاف كيف ساهم هذا الحدث الرئيسي، وإلى أيّ مدى، في تطوّر الجسد والعقل البشري. مثلاً: هل نتج عنه حقّاً قفزة نوعية في حجم الدماغ، ممّا أدّى إلى مساعدتنا على أن نصبح مفكرين عميقين؟
لكن للنظر في كيفية تأثير النار على تطوّر الإنسان، يجب على الباحثين أولاً الكشف عن الأساسيات: أي عن الأدلّة سريعة الزوال عن الشعلات النارية التي أوقدها أو استخدمها أسلافنا. فبالاستناد إلى ما يقرب من نصف دزينة مواقع تنقيب في إفريقيا والشرق الأوسط، يدفع باحثون مثل هلوبيك تاريخ إشعال أول نار إلى التقديرات الأكثر بعداً زمنياً، أي ما بين 1.6 مليون إلى 800 ألف سنة.
الذي ألهم هلوبيك للبحث في موقعها، وهو جزء من منطقة أثرية أكبر معروفة باسم "كوبي فورا Koobi Fora"، هي البقع الحمراء على شكل وعاء الموجودة تحت السطح بحوالي متر، والتي تمّ تحديدها أوّل مرّة في السبعينيات والثمانينيات بالقرب من "كوبي فورا". يبدو هذا مثلما يحدث للأرض عندما نشعل نار مخيّم فتقوم بأكسدة الحديد في التربة، وتحوّلها إلى ما يشبه الصدأ.
على هلوبيك وطلابها أن يقودوا السيارة إلى حديقة سيبيلوي الوطنية، ثمّ يعدون أنفسهم محظوظين إن كان لا يزال لديهم الوقت لاجتياز الطريق. تحوّل الأمطار الطرقات إلى وحل خلال موسم الأمطار، ممّا يضيف يوماً لرحلتهم. يخيمون ويحفرون بئراً للمياه ويستخدمون الألواح الشمسية من أجل الحصول على الطاقة الكهربائية.
تختلف المناظر الطبيعية قليلاً عمّا كان عليه الأمر في المخيّم الأصلي الذي أقيم منذ حوالي 1.6 مليون سنة. تقول هلوبيك: "النوع البشري الذي كان هنا هو في الغالب من الهومو إركتوس "الإنسان المنتصب Homo erectus"، رغم أنّ "الهومو هابيليس Homo habilis" و"البارانثروبوس بويسي Paranthropus boisei" كانوا في الأرجاء أيضاً. كان هناك نهر قريب في ذلك الوقت، تعتقد هلوبيك بأنّ البشريين "الهومينينز hominins" قد زاروا المنطقة من أجل جمع المكسرات من على الأشجار المحلية.
استخرجت هلوبيك وغيرها من علماء الآثار حوالي 5000 قطعة أثرية من الموقع، معظمها رقائق من العظام أو الحجر. قام العلماء بهدف توثيق عملهم بتحديد مكان استخراج الأجزاء بشكل دقيق على الخريطة. إن أشعل البشريون النار، فيفترض بأنّهم تجمعوا حولها وطبخوا وأكلوا وتحدثوا أو شكّلوا الحجارة. وفي الغالب أنّهم تركوا بعض القمامة وراءهم مثل عظام محترقة أو رقائق حجرية، مثلما يتم ترك علب البيرة والأواني البلاستيكية في بعض حدائق التخييم الحديثة.
وجدت هلوبيك من خلال استخدام الأشعة تحت الحمراء في المختبر في الوطن بأنّ حوالي أربعين من الأجزاء قد احترق بشكل مؤكد، وأنّ ثمانين أخرى قد تعرضت للهب. وكانت هذه الأجزاء الثمانين مجتمعة في بقعة لا تتجاوز المتر، حيث تشتبه هلوبيك بأنّه المكان الذي اجتمع فيه البشر حول النار الموقدة.
ومع ذلك، فهناك احتمال بأنّ إحراق هذه المواد قد تمّ عبر نيران طبيعية لم يتم لا استخدامها ولا مراقبتها من قبل البشر. يسهل الخلط هنا، وخاصّة إن لم يكن هناك نمط واضح للبقايا. يقول دينيس ساندغاث، عالم الآثار في جامعة سيمون فرايزر في بورنباي في كندا، بأنّه لاحظ أنّ زملاؤه يبحثون في جميع الأماكن حيث الشجيرات محترقة وحيث كان هناك مستوطنات للبشر بطبيعة الحال: "إنّهم ينظرون إلى العالم ككل مثل المواقد". تشير هلوبيك بأنّ يمكن للتلال النملية التي شُيدت بشكل نموذجي في الأشجار الميتة عبر إفريقيا وأستراليا وأمريكا الجنوبية، أن تحترق أيضاً.
لكن كما تقول هلوبيك فإنّ التبدّلات الحاصلة على العظام وعلى الرماد المحيط يعني بأنّ النار قد استمرّت بالاحتراق في ذات البقعة لمدّة ساعة أو اثنتين على الأقل، ممّا يستدعي استبعاد حرائق الأعشاب من السيناريو الذي حدث. تقول أيضاً بأنّ رواسب احتراق الحجارة والأشجار أو تلال النمل الأبيض كانت لتبدو مختلفة: فعلى سبيل المثال، تحتوي التلال النملية على ممرات تبقى مرئية تبعاً للرواسب المختلفة التي تملؤها مع الوقت. على النقيض من ذلك، لكانت رواسب الأشجار أكثر اندماجاً. تستنتج هلوبيك رغم أنّها غير قادرة على تحديد إن أشعل المخيمون الحريق أو استعاروه وحسب: "أنا واثقة جدّاً من كوننا نشهد ناراً مقصودة (استخدمها البشر) واحدة فقط على الأقل في هذا الموقع".
إن تمّ تأكيد ذلك فسيكون الموقع البالغ من العمر 1.6 مليون عام هو أوّل حالة يستخدم فيها البشر النار. لكنّه ليس الموقع الوحيد الذي أعاد استخدام النار إلى أكثر من مليون عام. فلدى تشازان وعالم الجيولوجيا الأثريّة فرانسيسكو بيرنا من جامعة سيمون فريزر موقعٌ لنار قديمة في كهفٍ في جنوب إفريقيا.
لقد شكّل كهف ووندرويرك بشكل متقطع ملجأ للبشريين منذ حوالي مليوني عام. لقد طاف علماء الآثار الذين دخلوا الكهف حول الرواسب الكربونية الكبيرة السامقة بجانب المدخل منذ 35 ألف عام على الأقل. تزيّن الجدران صورٌ قديمة للزرافات وعلامات مجزئة عن تصاميم بالأبيض والأحمر والأسود. يمتد الكهف على عمق أكثر من 100 متر ويبلغ ارتفاعه حوالي 3 أمتار. يقول تشازان: "إنّه يشبه بشكل أساسي نفق مترو". وجد علماء الآثار بأنّ البشريين جلبوا معهم إلى الجزء الخلفي من الكهف، لأسباب غامضة وربّما طقوسية، الكوارتز وحجر المغرة ومواد ملونة أخرى منذ حوالي 300 ألف إلى 500 ألف عام. لقد قال عالم الآثار الراحل بيتر بومونت من متحف ماكغريغور في كيمبرلي، والذي نقّب كثيراً في هذا الموقع بين عامي 1978 و1996، بأنّ هناك دلائل على وجود بقعِ نار متنوعة في طبقاتٍ تعود لفترات 1.6 إلى 1.7 مليون عام. شكك تشازان وآخرون بهذا.
لم يلاحظ الباحثون أي دليل على إشعال النار عندما حفروا قسماً خاصاً على بعد حوالي 30 متراً من مدخل الكهف عام 2005. ومع ذلك فقد غيّروا رأيهم حول ادعاءات بومونت عام 2009 عندما التقوا فيما بعد في معهد العلوم. كان هدفهم فحص طبقات رواسب من الكهف تمّ جمعها وحفظها باستخدام تقنيات الميكرومورفولوجيا "علم قياس مكونات التربة micromorphology". كانوا قد قطعوا كتلاً من الرواسب من أرضية الكهف ونقعوها بالراتينج من أجل تقسيتها. ثمّ قاموا بتشذيب هذه القطع لتصبح بسماكة 30 ميكرون ووضعوها على شرائح زجاجية كي يفحصوها تحت المجهر. ثمّ دبّ النشاط في اجتماع الآثاريين الجيولوجيين فجأة: "يا إلهي، هذا رماد خشب". فردّ عليهم تشازان: "لا، لا يمكن لهذا أن يكون حقيقياً".
نظر الباحثون عن كثب بشكل أكبر وتشاوروا مع خبير آخر. لقد كانوا مقتنعين بالأمر في نهاية اليوم: هناك شظايا عمرها مليون عام من العظام المحترقة والرماد في كهف ووندرويرك (أجبر هذا الاكتشاف تشازان على إعادة النظر في ورقة بحثية كان يحضّرها للمجادلة بأنّ الجنس البشري لم يستخدم أو يشعل النار حتّى 400 ألف عام ماضية).
كانت المنطقة المحترقة على عمق 30 متراً في الكهف، ممّا يجعلها عميقة جداً لتصل إليها ضربة الصاعقة. دفع هذا علماء الآثار إلى الافتراض بأنّ البشريين جمعوا شعلات النيران من حرائق الغابات وجلبوها إلى الكهف. لكن يحذّر بول غولدبرغ، البروفسور الفخري في جامعة بوسطن وأحد أعضاء الفريق، من أنّ طبقة الرماد المفقودة حتّى الآن هي الدليل على أنّ النار التي كان الكهف مقاماً لها هي نار منظمة. يمكن لهذا الدليل أن يأخذ شكل حفرة أو صخرة محترقة أو تربة محفوظة بفعل الفحم والرماد، أو تجمّع أدوات مرمية أو قمامة مثل التي شاهدتها هلوبيك في كوبي فورا. لا تزال التحقيقات بهذا الشأن جارية.
على الرغم من الجهود الجيدة التي يبذلها تشازان وهلوبيك وغيرهم، فإنّ العديد من علماء الآثار لا يزالون متشككين بأن البشرية قد استخدمت النيران في هذا الوقت المبكر من التاريخ. يقول ساندغاث بأنّه بالنسبة للمواقع ذات التواريخ المبكرة فإنّه ليس هناك من أدلّة تزيد عن الشكّ المعقول: "لا يمكنني في هذه المرحلة أن أصدّق هذا الأمر ولا أن أكذبه". بالنسبة لساندغاث فإنّ "موقد" هلوبيك ليس أكثر من أجمّة محترقة.
وكانت مواقع إيقاد النار في أوقات مبكرة مثل كوبي فورا على جدول الأعمال في اجتماع عام 2015 الذي نظمه ساندغاث وبرنا في سينترا في البرتغال، حيث ناقش علماء الآثار النار والجنس العاقل. اتفق الحاضرون على أنهم يريدون حقاً أن يعرفوا متى أصبحت النار أداة اعتياديّة أثّرت على تطوّر الإنسان.
لدى هلوبيك خطط للتحقّق من مدى انتشار استخدام النار منذ أكثر من مليون عام. وهي تريد أن تصل إلى أبعد من كوبي فورا من أجل التنقيب في مواقع أخرى في شرقي إفريقيا وإلى الأدوات المخزنة حالياً في المتاحف. إنّها تأمل عبر تطبيق التقنيات التي استخدمتها في كينيا، والتي لم تكن متاحة للاستخدام حتّى هذا القرن مثل التحليل بطيف الأشعة تحت الحمراء، أن تجد أدلة قد تكون غابت عن آخرين عن النار.
لكنّ إثبات "الاستخدام المنتظم" مهمّة صعبة. أحد أقدم المواقع في العالم ذات الأدلّة على الاستخدام المستمر للنار هو كهف قاسم في فلسطين المحتلة، حيث استخدم البشر النار هناك منذ حوالي 400 ألف عام. يقول عالم الآثار ران باركاي: "الكهف مليء برماد الأخشاب. لدينا هناك أطنانٌ من العظام المحترقة ومواد الصوان المحترقة". يعتقد باركاي بأنّ السكان كانوا قادرين على إشعال النار رغم عدم وجود دليل آثاري مباشر على ذلك. لكن يلاحظ ساندغاث بأنّه حتّى في كهف قاسم يصعب التأكّد ممّا إذا كان مستخدمو الكهف قد تجمعوا حول الحرائق بشكل دوري أم أنّهم استعاروا شعلة من جوارهم مرّة كلّ قرن. إنّ أساليب تحديد الزمن ليست دقيقة بما فيه الكفاية.
إنّ مجرّد استعارةٍ واحدة للنار، أو حتّى إشعالاً واحداً لها، لا يعني بالضرورة بأنّ النار قد لازمت البشرية ودفأتهم بشكل أبدي. من الممكن أنّ استعارة النيران قد بدأت قبل أن ترسخ كعادة لدى البشر.
يعتقد ساندغاث ومعاونه عالم الآثار هارولد ديبل من جامعة بنسلفانيا في فيلادلفيا أنّ هذا ما حدث مع النياندرتال الذين سكنوا الكهوف التي نقبوها في فرنسا، والتي يتراوح عمرها بين 100 ألف و40 ألف عام. لقد وجدوا بعض الطبقات من الرواسب التي تحتوي على الرماد والعظام والأدوات المحترقة، وبعض الطبقات التي لا تحتوي عليها. والغريب بالأمر أنّ النار تغيب عن الأزمان الأكثر حداثة والأكثر برودة. لقد افترضوا بأنّ النياندرتال لم يكونوا قادرين على إشعال النار وأنّهم كانوا يتمتعون بإمكانية الوصول إليها بشكل أكبر في الفترات الحارّة عندما تضرب الصواعق بشكل متكرر.
لكنّ افتراضاتهم تطرح السؤال التالي: إن لم يستطع النياندرتال إشعال النار، فكيف استطاع النجاة من البرد؟ يعترف ساندغاث: "هذا سؤال صعب. لقد كان الطقس بارداً بشكل مميت منذ 75 ألف عام مضت". لقد كانت الحرارة الوسطية أبرد منها الآن بقرابة 5 إلى 10 درجات مئوية. قال متأملاً: "ربّما ارتدى النياندرتال ثياباً دافئة، أو ربّما كانوا مشعرين".
يشكّ البعض الآخر بأنّ استخدام النياندرتال للنار قد ذوى. تقول هلوبيك: "أنا متأكدة جدّاً بأنّهم عرفوا كيف يوقدوا النار". وتفكّر بتفسير آخر لاكتشافات ساندغاث وديبل: "ربّما اضطرّ النياندرتال إلى الاعتماد على روث الحيوانات بدلاً من الخشب من أجل إيقاد النار أثناء فترات البرد وندرة الأشجار. ربّما أرادوا إبقاء أبخرة النيران النتنة أثناء الطهي أو تشكيل الأدوات بعيدة عن الكهوف التي سكنوها ولذلك أوقدوا تلك النيران بعيداً عنها حيث تزول الأدلّة بشكل أسرع، أو أنّه لم يتمّ العثور عليها بعد".
يبحث أندرو سورنسن، طالب دكتوراه علم الآثار في جامعة ليدن في هولندا، بشكل مباشر أكثر في مسألة قدرة هذه الشعوب الحديثة على إيقاد النار. يقول: «إنّ الطريقة الحقيقية الصحيحة الوحيدة التي يمكن أن تخبرنا إن كانوا يوقدونها بأنفسهم أم لا هي البحث عن الأدوات التي كانوا يستخدمونها من أجل إشعال تلك النيران».
لسوء الحظ، فإنّ معظم أدوات إيقاد النار، مثل العصي المستخدمة بالتدوير وخلق الاحتكاك، مصنوعة من الخشب ولذلك فمن غير المرجح أن تنجو لتدخل السجلّ الآثاري. هذا يترك لنا صخور القدح، مثل أحجار البيريت المقابلة للصوان، حيث تصبح طريقة سورنسن هي الأكثر احتمالية لتدلنا إلى إيجاد الدليل بين الأدوات التي صنعها الإنسان. هناك دليل قوي من بين مجموعة البيريت في متحف الأدوات اليدوية في بلجيكا بأنّ بعض البشر أوقدوا النار بهذه الطريقة منذ حوالي 13 ألف عام. كان سورنسن يتخيّر الأحجار في المتحف من أجل الفحص الميكروسكوبي الذي قد يشير إلى أنّها استخدمت لإيقاد النيران، لمرّة أو مرتين قبل أن يتمّ التخلص منها. لقد فحص سورنسن الكثير من هذه الأدوات التي تعود للنياندرتال الذين استوطنوا فرنسا منذ حوالي 50 ألف عام.
يقول سورنسن مشيراً إلى الفترة التي تتراوح بين 100 ألف إلى 35 ألف سنة مضت: "لقد أوقد النياندرتال النار بشكل مؤكد خلال الفترة الجليدية الأخيرة".
بغضّ النظر عن الفترة المحددة التي تمكن فيها البشر من إيقاد النار بشكل منتظم في حياتهم، فقد توافق العلماء على كونها نقطة تحوّل في مسار التطور البشري. لقد وصل البشر في نهاية المطاف إلى نقطة اللا عودة عندما أصبح إيقاد النار أمراً جوهرياً. لا يمكن للإنسان العصري العيش دون نار، سواء بإحراق الوقود في المحركات أو لتدفئة أجسامنا غير المشعرة أو لطهي شريحة لحم.
ويعتبر الطهي على وجه الخصوص وعلى نطاق واسع بمثابة التكيّف الحاسم. فهو يجعل مضغ وهضم وتحرير سعرات جميع اللحوم والخضراوات أسهل. يقول عالم الأحياء التطوري في جامعة هارفارد في ماساشوستس ريتشارد رانغهام بأنّ نيران الطهي غيّرت مسار التطوّر البشري. وكدليل على حاجتنا للهب، يشير إلى الأبحاث التي تظهر بأنّ النساء المعاصرات اللواتي يتبعن حمية غذائية كلّ ما فيها نيء لا يحضن، وهو أمرٌ نحتاجه بكلّ وضوح من أجل توالد الأنواع.
لقد توالد البشريون بالتأكيد بشكل جيّد في البرد. يقترح رانغهام بأنّ التغيير بدأ مع الهومو إيريكتوس الذي ظهر في المشهد منذ حوالي 1.9 مليون عام. لقد كان لأسلافهم أسنان كبيرة يسحقون فيها الغذاء الصلب، وبطون كبيرة لتخمير هذه الوجبات، وجمجمة صغيرة نسبياً. لاحظ العلماء بأنّ التبدّل إلى بشريين أطول وأكثر ذكاء قد بدأ مع الهومو إيريكتوس الذي انتشر في إفريقيا وآسيا وبعض أجزاء أوروبا. تسأل هلوبيك: "ما الذي جعل من الهومو إيريكتوس موجوداً؟ لا بدّ وأنّ شيئاً ما قد حدث".
لقد توافقت هلوبيك ورانغهام بأنّ السيطرة على النار قد تكون هي الشيء الذي حدث. يمكن لمواعيد النار المبكرة التي تعود إلى مليوني عام أن تدعم هذه الفرضية، لكنّ علماء الآثار الآخرين يقولون بأنّ الأدلّة الموجودة على الأرض هزيلة.
يقول ساندغاث: "أنا أحبّ نظرية رانغهام عن الطهي... إنّها تجعل الكثير من الأشياء منطقية. لكن لسوء الحظ فإنّ البيانات التجريبيّة لا تدعمها بشكل حسن". يجادل بأنّه حتّى لو ضاعت آثار الغالبية العظمى من نيران الهومو إيريكتوس، فيجب على المرء أن يكون قادراً على إيجاد أكثر من نصف دزينة من الدلائل المتناثرة في المواقع إن كانت عملية الطهي كافية لإحداث تغيّر في المسار التطوري. جادل علماء آثار آخرون بأنّ تقطيع الطعام وفرمه قد يوفّر ذات الزيادة في السعرات الحرارية التي يوفرها الطهي.
اقترح عالم الآثار باركاي أثناء الاجتماع في البرتغال فرضية بديلة للطهي من شأنها أن تفسّر سبب بدء انتشار النار في الفترة قبل 400 ألف عام في المنطقة التي تدعى اليوم بالشرق الأوسط. يقول باركاي بأنّه قبل ذلك التاريخ كانت الفيلة تحتل المنطقة لمئات آلاف السنين، ومن المرجح أنّها شكّلت المصدر الغذائي الرئيسي. لقد شكّلت الجسئيات "الحيوانات الثديّة الضخمة – Pachyderms" وجبة غنيّة: إنّ بها دهوناً أكثر من غيرها من الحيوانات، ودهونها المشبعة بالسعرات الحرارية متوفرة بسهولة حتّى لو لم يتمّ طهي اللحم. بدأت الفيلة تختفي من السجل الأثري قبل حوالي 400 ألف عام، رغم أنّ هناك تقريرين قد وجدا دلائل محتملة على وجود الفيلة في تواريخ لاحقة. ليس هناك سبب محدد لاختفاء تلك الوحوش، ربّما حصل ذلك بسبب الإفراط في الصيد. تزامن اختفاؤهم مع مجيء صيادين أقل دهوناً، ممّا دفع باركاي للقول بأنّ هذا سببه بالتأكيد أنّ الناس قد أجبروا على التحوّل إلى وجبات أقلّ دهوناً مثل الغزلان. إنّ إتقان إشعال النار وطهي اللحم لا بدّ وأنّه حرر ما يكفي من السعرات الحرارية لإطعام البشريين الجائعين.
يقول تشازان بأنّ فرضية الفيل تساعد على تفسير الطريقة التي غذّى بها البشريون الأوائل أجسادهم دون الحاجة إلى النار، لكنّ الوضع الحقيقي كان أكثر تعقيداً على الأغلب. يضيف ساندغاث: "لا أظنّ بأنّ الخيار كان ببساطة إمّا الأفيال وإمّا النار"، مشيراً إلى أنّ البشريين في أماكن مثل أوروبا قد تدبروا أمر الحصول على ما يكفي من السعرات الحرارية من طرائد نيئة غير الماموث أو الفيلة.
في حين أن الوجبات الغنيّة بالسعرات الحرارية قد تكون المحرّك الرئيسي لتبني النار، فإنّ لها فوائد أخرى بدءاً من الدفء ووصولاً إلى الحماية من الحيوانات المفترسة. قد يكو للاجتماع حول موقد النار فروقٌ كبيرة في تطوّر المهارات الاجتماعية: فعلى الناس عندها أن يتعاونوا من أجل تدبّر أمر إبقاء النار متقدة، وربّما قد يكونوا تواصلوا اجتماعياً حول اللهب. يقول تشازان: "أظنّ بأنّ أمراً عميقاً جداً قد حدث عندما تمّ جلب النار إلى المنزل. إنّه أمرٌ فاتن".
لكن إلى أن يصبح عمل هلوبيك والآخرين أكثر تماسكاً، وإلى أن يتمّ الكشف عن المزيد من الأدلّة عن النيران وعن متى بات استخدامها شائعاً بالضبط، وأين تمّ ذلك، وكيف غيّر هذا مسار التطوّر البشري، يبقى كلّ شيء محل جدل. تقول هلوبيك: "إنّها إحدى تلك الأحاجي العظيمة".