أوروبا في مرمى إطلاق الولايات المتحدة
عندما تمّ إنشاء الاتحاد الأوروبي، كمؤسسة عابرة للوطنية، كان الذين أنشؤوه يحلمون بأنّ مشروعهم السياسي قد يصبح إحدى القوى العظمى في العالم. لكنّ أيّ نجاح كان بالإمكان تحقيقه، أو تمّ تحقيقه، كان يتعرّض للتقويض بسبب مصالح الولايات المتحدة التي ترغب في إضعاف الاستقرار السياسي لأوروبا. سنناقش تالياً بعض أوجه الموضوع من ناحية الأسباب والتأثير، بما قد يوضّح سلوك الولايات المتحدة الحالي وغير المبرر في الكثير من الأماكن، والذي بدأ يصبح واضحاً وفجّاً تجاه أوروبا منذ إدارة ترامب، واشتعال النزاع في أوكرانيا في زمن بايدن.
حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت أوروبا تهيمن على المسرح العالمي من منظور جيوسياسي، إلا أنّها انتهت بشكل مفاجئ في أعقاب الحربين المدمرتين اللتين دمرتا القارة في بداية القرن العشرين.
توّجت نهاية الحرب العالمية الثانية، بهزيمة ألمانيا النازية واليابان الإمبراطورية، وتأسيس الولايات المتحدة نفسها باعتبارها أعظم قوة اقتصادية وعسكرية، التي لا يواجهها سوى الاتحاد السوفييتي الصاعد. وفي هذا النظام العالمي الجديد، أصبح موقف أوروبا هامشياً، ويعتمد على الحماية العسكرية التي توفرها الولايات المتحدة. في الواقع، على حد تعبير أمينها العام الأول اللورد هاستينغز، فإن حلف شمال الأطلسي «الناتو» تم إنشاؤه من أجل «إبقاء الاتحاد السوفييتي خارجاً، والأمريكيين في الداخل، والألمان في الأسفل». وعلى الرغم من أن موقف أوروبا أصبح هامشياً خلال تلك السنوات، فقد كان من الواضح بالفعل أنّ الموارد التكنولوجية والخلفية الاجتماعية التقدمية للقارة القديمة كانت ستمهد الطريق لنهضة اقتصادية في السنوات القادمة. لقد وضع إسماي - وهو ضابط سابق في الجيش البريطاني - بجملته التاريخية أوروبا مرة أخرى في مركز العالم الجيوسياسي. ومع ذلك، كما اعترف بنفسه، فإن بقاء أوروبا يتطلب من الولايات المتحدة أن تلعب دوراً حاسماً.
أدرك الأمريكيون أنفسهم بوضوح الإمكانات المتجددة التي تتمتع بها القوى الأوروبية الرئيسية وحاولوا الحفاظ على مركزهم المهيمن من خلال الاستفادة منها كشركاء تجاريين، وتعزيز نموها الاقتصادي مع الحفاظ على اعتمادها العسكري على واشنطن. وقد شهد اقتصاد أوروبا نمواً هائلاً خلال السنوات الأربعين التي أعقبت الحرب العالمية الثانية المأساوية، ولكن المؤسسة العسكرية الأوروبية ظلت ضعيفة إلى حد كبير وظل دفاعها يعتمد بشكل كامل على الولايات المتحدة.
في هذه الأثناء، كانت القوى الأوروبية تجرب أشكالاً جديدة من التعاون السياسي لمنع المنافسة الاقتصادية المحتملة التي قد تؤدي إلى حرب أخرى، لينتهي المطاف بإنشاء الاتحاد الأوروبي كقوة اقتصادية مشتركة حقيقية تتجاوز الحدود الوطنية ولكنها تتميز بالسيادة السياسية المستقلة للدول الأعضاء الفردية. وكانت كل هذه الخطوات عبارة عن حلول مبررة سياسياً لخلق أوروبا أقوى، حيث تتمكن كل الدول الفردية من الاستفادة اقتصادياً، وحيث يتغلب التعاون على المنافسة.
كان الاقتصاد القوي في الدول الأوروبية الفردية مفيداً للولايات المتحدة، حيث اعتبرت دائماً أن السوق الحرة والمعولمة هي الحل الأفضل للحفاظ على هيمنتها العالمية. في 2024 قدّر صندوق النقد الدولي الناتج المحلي الإجمالي الاسمي للولايات المتحدة بمبلغ 27.97 ألف مليار دولار. أمّا أغنى دولة أوروبية غربية فهي ألمانيا، حيث يبلغ الناتج المحلي الإجمالي الاسمي 4.7 ألف مليار. لكنّ إذا نظرنا إلى أوروبا الغربية ككل، فناتجها الإجمالي هو 22.08 ألف مليار، ليكون بذلك المنافس الأول للأمريكيين «الصين، 18,56 ألف مليار، وروسيا: 1.9 ألف مليار». يترتب على ذلك أنّ إضعاف أوروبا سياسياً واقتصادياً يصبّ في صالح الأمريكيين، من هنا يمكن فهم قيام ترامب بإجبار الشركات الأوروبية على إيقاف التعامل مع إيران عند الانسحاب من الاتفاق النووي، وكذلك تدمير السيل الشمالي. إنّ وجود اتحاد أوروبي أقوى، خاصة عندما تختلف رؤى أعضائه عن استراتيجيات واشنطن، أمرٌ غير مقبول بالنسبة لواشنطن.
هناك أيضاً المنظمات، مثل الأمم المتحدة، والبنك الدولي، وغيرها ممّن يمكن لكفّة التصويت أحياناً أن ترجّح التوصّل إلى قرار. كمثال، تمتلك الولايات المتحدة 15.49٪ من قوة التصويت في البنك الدولي، وتمتلك ألمانيا فقط 4.09٪. لكنّ أصوات كلّ من فرنسا وبريطانيا وإيطاليا «3.81، 3.81، 2.58 على التوالي» عند إضافتها إلى ألمانيا تصبح ذات ثقلٍ كبير لتغيير مسارات القرارات.
وسائل إضعاف الاتحاد الأوروبي
يمكننا تلخيص الوسائل والاستراتيجيات العلنية المتبعة من قبل الولايات المتحدة حتّى الآن لإضعاف الاتحاد الأوروبي بخمسة وسائل بارزة.
الناتو، حيث بدأت الأصوات تعلو منذ ترامب بأنّ على الأوروبيين أن يدفعوا أموالاً أكثر في سبيل هذا الحلف، وقد أظهرت الحرب في أوكرانيا أنّ الأمريكيين يضغطون بشكل مستمر على الأوروبيين كي يهبوا الأوكرانيين الأسلحة والأموال، ولو كان ذلك على حساب مخازينهم الخاصة. الأمر الآخر في هذا السياق هو عدم دعم الولايات المتحدة لجهود أوروبا لإنشاء قوى أوروبية مستقلة عن الناتو، يمكن من خلالها للأوروبيين أن يمارسوا سيادتهم.
بريكزت
عليهم الكثير من الأدوات لتعويض العجز التجاري بعد الخروج من الاتحاد، واتفاقيات خاصة بين البلدين.
التهديد الاقتصادي
بدءاً من فرض الرسوم الجمركية على البضائع الأوروبية، مروراً بإجبار الأوروبيين على عدم شراء الغاز الرخيص من روسيا والاستعاضة عنه بالغاز الأمريكي، وتدمير السيل الشمالي، تعتمد الولايات المتحدة تهديداً اقتصادياً - مباشراً أو غير مباشر - مع الاتحاد الأوروبي ودوله، وصولاً إلى إغراء الشركات الصناعية والتكنولوجية الأوروبية بترك القارة ونقل أعمالها إلى الولايات المتحدة. هناك من يقول أيضاً بأنّ أحد أهداف الولايات المتحدة لإشعال منطقة البحر الأحمر هو قطع النفط والغاز عن الأوروبيين، وإجبارهم على الاعتماد بشكل أكبر على الغاز الأمريكي.
دعم الأحزاب اليمينية المتطرفة
تريد الولايات المتحدة أن تضمن أنّ المنتفضين بسبب الأوضاع المتردية في الاتحاد الأوروبي لن يكونوا ضدّها، ولهذا تدعم بكلّ وسيلة ممكنة المتطرفين العنصريين، والفاشيين. هؤلاء الفاشيون والنازيون الجدد يضمنون تأمين صاعق انفجار في أوروبا يمكن للأمريكيين استخدامه لتسيير الانتفاضات والقائمين عليها.
عزل أوروبا عن روسيا
إنّ اجتماع أوروبا مع روسيا وتشكيلهم محوراً يعتمد على بعضه البعض كان من الكوابيس التي أرّقت الساسة الأمريكيين، ويظهر السيل الشمالي كيف كان بإمكان الأوروبيين إيجاد مصادر طاقة يمكن الاعتماد عليها لدى الروس. لم تنفع العقوبات التي فرضها الغرب على روسيا في إسقاطها، وتمكنت روسيا من تفادي هذا السيناريو، وتحقيق نمو واكتفاء ذاتي وشركاء جدد. لهذا، وعندما بدأت الأسافين في هذه العلاقة تدقّ بشكل يومي منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، واستجابة الأوروبيين لضغوط ودعوات الولايات المتحدة بقطع العلاقات مع روسيا ومعاقبتها، ظهر بشكل واضح بأنّ الخاسر هذه المرة ليس روسيا، بل الأوروبيون أنفسهم.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1157