أربعة «تفجيرات» دبلوماسية مترابطة في أقلّ من 3 أعوام!
أوديت الحسين أوديت الحسين

أربعة «تفجيرات» دبلوماسية مترابطة في أقلّ من 3 أعوام!

وسط خُطب «الانتصار» الأمريكي بعد نهاية الحرب الباردة، صعد بريجنسكي، وهو الأكاديمي الذي اكتسب خبراته في الجيوبولتيك كمستشار لرئيسين أمريكيين، وقدّم في كتابه «رقعة الشطرنج الكبرى» أوّل دراسة أمريكية جيوسياسية جادّة في أكثر من نصف قرن. حذّر بريجنسكي من أنّ عمق الهيمنة الأمريكية العالمية – حتى في ذروة العالم أحادي القطب، كانت سطحيّة بطبيعتها. قال بأنّ أوراسيا التي تحوي 75٪ من إنتاجية العالم وسكانه هي الجائزة الجيوسياسية الأهم للولايات المتحدة. ولهذا من أجل إدامة هيمنتها على العالم، هي بحاجة لإدامة هذه الهيمنة على أوراسيا. يجب على واشنطن لهذا غرض مواجهة ثلاثة تهديدات: 1) طرد أمريكا من قواعدها العسكرية الخارجية على سواحل المحيط الهادئ، 2) طردها من مواقعها في الأطراف الغربية للقارة التي يؤمنها الناتو، 3) تشكُّل كيان واحد صلب في وسط أوراسيا مترامية الأطراف.

كانت أعمال بريجنسكي قد اعتمدت بشكل كبير على ما كتبه الأكاديمي البريطاني السير هارفارد ماكيندر في 1904، حيث أشار بأنّه على مدى الـ 500 عام الماضية هيمنت القوى الإمبريالية الأوروبية على أوراسيا من البحر، لكن بناء خطوط السكك الحديدية العابرة للقارات كان يحوّل مركز السيطرة إلى «قلبها» الداخل الشاسع. كان ماكيندر قد أشار بعد نهاية الحرب العالمية الأولى أيضاً بأنّ أوراسيا، إلى جانب إفريقيا، شكّلا «جزيرة عالمية» وقدّم الصيغة الجيوسياسية الجريئة التالية: «من يحكم قلب الجزيرة يحكم العالم». من الواضح أنّ ماكيندر كان سابقاً في توقعاته 100 عام. لنتخيّل الجيوبوليتيك العالمي اليوم على غرار أفكار ماكيندر، من أجل تشكيل ركيزة عميقة لتشكّل المزيد من الأحداث السياسية العابرة، إلى حدّ كبير بالطريقة البطيئة التي تؤدي فيها التغيرات إلى تغيير وجه الكوكب.
في العقود التي انقضت منذ نهاية الحرب الباردة، من الواضح أنّ تزايد نفوذ الصين في أوراسيا يمثّل تغييراً جيوسياسياً جوهرياً في القارة. واقتناعاً من الولايات المتحدة بأنّ بكين ستلعب اللعبة العالمية وفقاً «لقواعد» الهيمنة الأمريكية، ارتكبت مؤسسات السياسة الخارجية في واشنطن خطأ في الحسابات الإستراتيجية في 2001 وقبلت الصين في منظمة التجارة العالمية. اعترف بذلك اثنان من البارزين في الإدارة الأمريكية في حينه بالقول: «نحن في مجتمع السياسة الخارجية الأمريكية، وبشكل عابر للطيف الإيديولوجي، تشاركنا الاعتقاد بأنّ قوة الولايات المتحدة وهيمنتها يمكن أن تقولب الصين بسهولة بحسب الرغبات الأمريكية... لكن تبيّن أنّ كلّ جوانب جدلنا خاطئة». بعد أكثر من عقد بقليل على انضمام الصين لمنظمة التجارة العالمية، نمت صادرات بكين السنوية إلى الولايات المتحدة بما يقرب من خمسة أضعاف، وارتفعت احتياطاتها من العملات الأجنبية من 200 مليار دولار فقط إلى 4 ترليونات دولار بشكل غير مسبوق.

مناورة الصين الجيوسياسية

في عام 2013 وبالاعتماد على تلك الاحتياطات النقدية الهائلة، أطلق الرئيس الصيني مبادرة بنى تحتية بقيمة ترليون دولار لتحويل أوراسيا إلى سوق موحدة. عندما بدأت شبكة الصلب من القضبان وخطوط أنابيب البترول بعبور القارة، أحاطت الصين «جزيرة العالم» القارية بسلسلة من 40 ميناء تجارياً من سريلانكا إلى المحيط الهادئ، لتدور حول الساحل الإفريقي، وتصل أوروبا من اليونان وصولاً إلى هامبورغ في ألمانيا. عبر إطلاق ما تبيّن بأنّه أكبر مشروع تنموي في التاريخ – 10 أضعاف حجم خطة مارشال – يعمل الصينيون على تعزيز نفوذ بكين الجيوسياسي في أوراسيا، بينما في الوقت ذاته يحقق مخاوف بريجنسكي من صعود «كيان صلب» في وسط آسيا.
خلافاً للولايات المتحدة، لم تنفق الصين الكثير من الجهود في إنشاء القواعد العسكرية، ففي الوقت الذي تحتفظ فيه واشنطن اليوم بـ 750 قاعدة في 80 دولة، لدى بكين قاعدة واحدة في جيبوتي على الساحل الشرقي لإفريقيا، وبعض المفارز في ميانمار وشرق طاجكستان، وفي بحر الصين الجنوبي. علاوة على ذلك، وفي الوقت الذي كانت فيه بكين تركز على بناء البنية التحتية الأوراسية، كانت واشنطن تخوض حربين كارثيتين في أفغانستان والعراق في محاولة غير ناجحة لإدامة الهيمنة. في المقابل، ركزت بكين على التراكم البطيء للاستثمارات والنفوذ العابر لأوراسيا من بحر الصين الجنوبي إلى بحر الشمال. من خلال تغيير الجيوبوليتيك الرئيسي في القارة عبر التكامل التجاري، حصدت الصين مستوى من النفوذ لم يسبق له مثيل في الألف عام الماضية. وكلّ ذلك أثناء إطلاقها العنان للقوى المحلية من أجل التغيير السياسي بناء على معطيات العالم الجديدة.
اليوم وبعد عقد من التوسع الاقتصادي الصيني في أوراسيا، بدأت التحوّلات في الركيزة الجيوسياسية لتلك القارة تظهر في سلسلة من الانفجارات الدبلوماسية، حيث يمحو كلّ منها جانباً من نفوذ الولايات المتحدة. قد تبدو أربعة من أحدث هذه الانفجارات غير مرتبطة، ولكنّها في الحقيقة شديدة الارتباط ببعضها البعض، يدفعها التغيير الجيوسياسي في المنطقة. جاء أوّلها الذي كان صادماً للكثيرين: الانسحاب الأمريكي المذلّ من أفغانستان في آب 2021. كانت الصين قبل ذلك وضمن لعبة جيوسياسية محكمة قد عقدت اتفاقيات تنمية ضخمة مع جميع دول آسيا الوسطى المحيطة بأفغانستان، ما ترك القوات الأمريكية معزولة هناك. حتى بالمعنى العسكري، كان على القوات الجوية الأمريكية أن تطير إلى مسافة ألفي ميل من أقرب قاعدة لها في الخليج الفارسي، ما خلق وضعاً غير مستدام أو آمن على المدى الطويل.
ثمّ بعد ستّة أشهر من ذلك في شباط 2022، حشد الروس «بالتنسيق» مع الصينيين 200 ألف عسكري على الحدود الأوكرانية من أجل تقويض رهان الناتو وتأثيره في المنطقة، وإضعاف التحالف الغربي بشكل كبير، أي تحقيق الأمر الثالث الذي حذّر منه بريجنسكي. ومع ردّ الفعل الانتقامي الغربي من روسيا بمحاولة عزلها، ارتفعت التجارة الثنائية الروسية الصينية بنسبة 30٪ إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق. تواجه الولايات المتحدة اليوم تهميشاً دبلوماسياً، فلا هي استطاعت حشد العالم ضدّ روسيا، وحتّى حلفاؤها الذين أضّرت بهم العقوبات أكثر ممّا أضرّت بروسيا، يسعون إلى العودة إلى حالة ما قبل الحرب من بوابة بكين. التعاطي الأوروبي مع مبادرة السلام الصينية كفيل بأن يثبت ذلك في المستقبل المنظور.
لكن لم يتوقّف التهميش الدبلوماسي للأمريكيين عند هذا الحد، فبعد توقيع الصين لاتفاقية بنية تحتية بقيمة 400 مليار دولار مع إيران، وعقد اتفاقات نفطية مع السعودية جعلتها المورّد الأول، تمكنت من وضع نفسها في موقع دبلوماسي سمح لها بعقد اتفاقية بين البلدين بعد قطيعة نتج عنها الكثير من التمزّق في المنطقة، وسقطت معه الكثير من الخطط الغربية التي وجدت أنّها لم تعد صالحة.
أخيراً وبشكل لم تخفِ الإدارة الأمريكية انزعاجها منه، طار ماكرون – بوصفه معبّراً عن فرنسا وجزء كبير من أوروبا – إلى بكين ليعود بعقود بالمليارات للشركات الفرنسية. كان على ماكرون أن يكون واضحاً ويقول بصراحة بأنّه يسعى «إلى شراكة إستراتيجية عالمية مع الصين»، وأن يعد بأنّه «لن يتلقَّى الإشارات من أجندة الولايات المتحدة» فيما يخصّ تايوان. طبعاً لا يزال الأوروبيون كما يبدو غير ناضجين بما يكفي لاتخاذ خطوة، والدليل هو قيام المتحدث باسم قصر الإليزيه بالتصريح فوراً بعد ذلك: «الولايات المتحدة حليفنا، ونتشارك معها القيم». لكن بدلاً من أن يرأب ذلك الصدع، فقد كشف أنّ الاتحاد الأوروبي لم يعد قادراً على أن يكون حليفاً بلا شروط لواشنطن.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1120
آخر تعديل على السبت, 06 أيار 2023 21:44