العلم في خدمة الرأسمال الهندسة الوراثية وصناعة النباتات المعدلة وراثياً
اختطاف الشركات لقطاعي الغذاء والزراعة، يقول إدغار مونسانتو، رئيس مجلس إدارة شركة مونسانتو 1943-1963 في كتابه (روح المؤسسة): »أقرّ بأن لشخصيتي جانبين، أحدهما الشخص المؤمن المثالي، والآخر المقتنع بتعنت وبرود بقانون الغابة«.
ترجمة: ديمة النجار
عندما تقوم الشركات الغنية مع مجموعات الضغط المرتبطة بها سياسياً (اللوبيات) وكبار الموظفين الموالين لها في الأجهزة الحكومية بلي عنق السياسات الحكومية لتصب في مصلحتهم، عندها نكون في ورطة حقيقية. وعندها نسلبُ مؤسساتنا الديمقراطية، وتصادر خياراتنا، حرياتنا وحقوقنا.
ولتحقيق مصالح الشركات غالباً ما تستخدم العلم بشكل يدعو الى الريبه، فمجموعات الضغط (اللوبيات)، تستغل العلاقات السياسية، ووجودها في قلب الحكومات بالإضافة إلى شبكات من العلاقات العامة لتقويض عجلة الديمقراطية، كل ذلك يوظفونه لمصالحهم الخاصة. فحالما تقوم لهم قائمة، يصبح الوقوف في وجههم أو مساءلتهم مخاطرة حقيقية.
قوة ونفوذ قطاع (النباتات المعدلة وراثياً)
إن شكل العلاقة الذي يبنى ويترسخ بين القطاع الخاص والأجهزة الحكومية يتجلى بالانتقال المستمر لأصحاب الشركات بين المناصب الهامة في مراكز صناعة القرار الحكومي ومناصبهم ضمن شركاتهم الخاصة. وقد سلط الإعلام البريطاني في السنوات القليلة الماضية الضوء بشكل خاص على العلاقات المثيرة للريبة والأريحية الكبيرة بين المشتغلين في صناعة السلاح وأولئك الذين يحتلون مناصب مرموقة في وزارة الدفاع البريطانية. وقد تمكن العديد من كبار شخصيات صناعة (النباتات المعدلة وراثياً) في الولايات المتحدة، وخاصة من شركة مونسانتو، تمكنوا بسهولة من تولي مناصب هامة في إدارة الغذاء والدواء الأمريكية. تحدث الكاتب والباحث ويليام إف إنغدال عن نفوذ مشابه في أوروبا، مشيراً إلى العلاقات بين قطاع (النباتات المعدلة وراثياً) داخل أوروبا وهيئة الأمن الغذائي. ويقول بأن أكثر من نصف العلماء الذين أدخلوا في لجنة الخبراء المختصة بالنباتات المعدلة وراثياً، والذين أعطوا تقارير إيجابية حول دراسات شركة مونسانتو العاملة في هذا المجال، والتي وصلت لهيئة الاتحاد الأوروبي، تبين أنهم مرتبطون بقطاع صناعة التكنولوجيا الحيوية.
يقول فيل أنجل ، مدير علاقات شركة مونسانتو في مقالته (اللعب في حديقة الله) مجلة نيويوك تايمز، تشرين الأول 25 عام 1998.(ليس على شركة مونسانتو التعطف فيما يتعلق بسلامة الأغذية المعدلة وراثياً، إن اهتمامنا يتركز على بيع أكبر قدر ممكن منها، أما مهمة التأكد من سلامتها فهي من مهام إدارة العقاقير والأغذية)
عندما يكون أصحاب مصالح الشركات قادرين على الوصول إلى مثل هذه المناصب في السلطة، عندها لن يكون من المستغرب بأن يكون لديهم بعض الأدوات الثقيلة لاستخدامها عند اللزوم في صد (أو محاولة صد)الانتقادات الموجهة إليهم بجميع الوسائل الضرورية.
ولنأخذ على سبيل المثال قطاع النباتات المعدلة وراثياً، فالتكتيك المتبع فيها، وهو بالتأكيد لا يقتصر على هذا القطاع، هو الهجوم وتشويه سمعة الشخصيات التي تتحدى (العلم) و متطلبات الصناعة.
وقد حدث ذلك منذ عدة سنوات عندما تم إسكات أحد أهم العلماء الباحثين في مجال أخطار النباتات المعدلة وراثياً، حيث لاحقت تهديدات الدعاوى القضائية وضغط الحكومة البريطانية الدكتور أرباد بوسزتاي إلى أن تمكنت من إسكاته تماماً من خلال القيام بحملة نشطة لتشويه سمعته. بالمثل، فقد قامت وثائق ويكيليكس بالإضاءة على كيفية قيام إدخال النباتات المعدلة وراثياً عنوة إلى الدول الأوروبية عبر فرنسا التي تآمرت مع السفير الأمريكي لوضع (قائمة مستهدفين انتقامية) يراد منها الثأر من أي شخص يحاول تنظيم التعامل مع النباتات المعدلة وراثياً. والآن قد أصبح واضحاً مدى سلطة الصناعة !
بطل الفقراء: تكنولوجيا التعديل الوراثي الرائدة
لقد فشل قطاع النباتات المعدلة وراثياً في إدراك مسؤوليته في إثبات أن منتجاته آمنة. لأنه أخفق أصلاً في البرهان على سلامة استخدامها.
لم تجر تجارب مستقلة على هذه المنتجات قبل أن يقوم السيناتور بوش بالسماح بإطلاقها إلى الأسواق الأمريكية. ولا يجب الاعتماد على كلام البروفسور شانتو شانثارام ، وهو أحد رموز قطاع النباتات المعدلة وراثياً، في ذمه لـ (فرق المعادين للنباتات المعدلة وراثياً) في إثبات أن هذه النباتات آمنة أو غير آمنة.
والآن بعد أن دخل اللعبة علماء مثل البروفسور سيراليني من جامعة caen في فرنسا، بلحاقه بالركب من خلال قيامه بتجارب على نباتات معدلة وراثياً لم يسبق القيام باختبارها بشكل مستقل سابقاً، اتهم سيراليني بالكذب والاحتيال. في الواقع، يتجنى البروفسور شانثارام ويقول:(أنتم، يا- فرق المعادين للنباتات المعدلة وراثياً- إنكم لا تخجلون! أنتم جميعاً مجرد أعداء مقززين للمزارعين الفقراء حول العالم بقيامكم بمحاولة حجب أحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا من منتجات آمنة...).
لابد من الإشارة قليلاً إلى أن 250الف مزارع فقير ممن يكسبون رزقهم من زراعة القطن في الهند مدينون لهذه «التكنولوجيا الرائدة» بأنها لم تعط النتائج التي وعد بها قطاع صناعة النباتات المعدلة وراثياً.ومن السهل أن نستنتج بأنه حيث يوجد (أعداء مقززين)، يوجد شركات ربحية تتحكم ببيع البذار غير القابل للزراعة لأكثر من جيل الناتجة عن تكنولوجيا صناعة النباتات المعدلة وراثياً ( البذار الناتجة عن زراعة هذه البذار المعدلة تكون عقيمة بحيث لا يمكن للمزارع أن يزرع في الموسم التالي من البذار التي ينتجها حقله بل لابد له من شراء البذار من الشركة ذاتها كل موسم فتتحقق تبعيته لهذه الشركة)1 وقد أدى ذلك إلى العديد من حالات الانتحار، وإلى انهيار منظومة العمليات الزراعية التي طورها مزارعو القطن عبر آلاف السنين في الهند.
لكن هذا هو دأب الشركات الصناعية: أن تقول إن المنتج آمن، بالتالي يكون كذلك ! ثم يتوقع منا أن نعطي لمزاعمهم قيمة لو ظاهرياً، على الأقل لأن الصناعات أعطيت جو من الموثوقية الزائفة، بسبب مصادقة إدارة الأغذية والعقاقير في الولايات المتحدة على مثل هذه المنتجات. لقد استخدمت هنا كلمة (زائفة) لأن الانتقال المستمر لأصحاب الشركات بين عملهم كشخصيات هامة في إدارة مونسانتو ثم انتقالهم إلى مناصب هامة في إدارة الأغذية والعقاقير الأمريكية يجعل من الصعب من جهة أن ترى الحد الفاصل بين إدارة الأغذية والعقاقير وصناعة النباتات المعدلة وراثياً في الولايات المتحدة ومن جهة اخرى يتعذر اكتشاف الحدود بين صناعة النباتات المعدلة وراثياً والهيئات التنظيمية داخل الاتحاد الأوروبي.
تأثير احتكار الشركات لمجالي الغذاء والزراعة:
تمضي الشركات حالياً في جدول أعمالها المتعلق بالتعديل الوراثي لتقدم لنا ما يسمى»الثورة الخضراء- الجيل الثاني». لقد تغيرت الزراعة في العقدين الماضيين أكثر مما فعلت في ال1200 سنة التي سبقتها. وقد لاحظت العالمة البيئية فاندانا شيفا بعد عام 1945 أن معامل الكيماويات التي كانت تعمل في مجال صناعة الأسلحة صرفت اهتمامها إلى معرفة كيفية استخدام الكيماويات في الزراعة. ونتج عن ذلك مثلاً بذار النباتات القزمة المعدلة التي أنتجت خصيصاً بهدف التجاوب النوعي مع الكيماويات التي ينتجونها. في السنوات القادمة، ستتحول الزراعة إلى صناعة تعتمد على الكيماويات الأمر الذي سيتسبب بتدمير التنوع الحيوي. وسنترك لنواجه الأحادية في الأنظمة الزراعية التي ما هي -حسب شيفا- إلا انعكاس للأحادية في التفكير. وفي النتيجة، الزراعة الحديثة هي جزء من نموذج يعتمد على الكثير من التنميط بهدف الاعتماد الكلي على منتجات الشركات: شركات أنظمة الزراعة الموحدة.
إن لذلك معاني ضمنية كثيرة، فقد تبين أن صناعة الكيماويات الزراعية مربحة للغاية وتخدم صناعة النفط والمواد الكيماوية، وقد ساعدت هذه الصناعة في الحفاظ على الهيمنة الغربية وتعزيزها على الأقل من خلال «التكيف الهيكلي» الذي يرافقه بطبيعة الحال إيقاف إتباع العمليات الزراعية التقليدية لمصلحة سياسات التوجه نحو تصدير المنتجات الزراعية، وبناء السدود تلبية لاحتياجات الصناعة المكثفة التي تتطلب الكثير من الماء، والقروض، والمديونية، ...الخ.
وبغض النظر عن ربط البلدان الأفقر بنظام التجارة العالمية غير المتكافئ الذي يعزز عدم المساواة في العالم، فإن سيطرة الشركات على مجالي الغذاء والزراعة كان له العديد من الآثار الأخرى، على الأقل فيما يتعلق بالصحة!
الدكتور ميرل هاموند، الذي شكل حملة للبحث عن بدائل المبيدات الحشرية الكيماوية، أخبر اللجنة البرلمانية الكندية في العام 2009 بأن مجموعة من الدراسات المنشورة في مجلات مرموقة أشارت إلى ارتباط كبير بين المبيدات الحشرية الكيماوية وعواقب صحية خطيرة، تتضمن خللاً في الغدد الصماء، مشاكل في الخصوبة، عيوباً خلقية، أورام الدماغ وسرطان الدماغ، سرطان الثدي وسرطان البروستات، سرطان الدم في مرحلة الطفولة، سرطان المعدة، صعوبات في التعلم، وسرطان الغدد اللمفاوية الخبيث.
نقف في وجه التقدم:
إن ما يعنونه بقولهم (إننا نقف في وجه التقدم) هو أننا نقف بوجه تقدم صناعتهم واغتصاب البيئة الطبيعية وتلويثها من أجل الربح.
هذه هي الصناعة التي كانت المسؤولة بشكل رئيسي عن موت 250 الف مزارع في الهند، الصناعة التي لوثت المحاصيل الطبيعية، وأرهبت المزارعين بالدعاوى القضائية في أمريكا الشمالية، الصناعة التي تورطت شركاتها تماماً بذنب تلويث البيئة، ودمرت صحة الناس بشكل جدي بمركبات ثنائي الفينيل متعدد الكلور والديوكسين. الصناعة المتورطة في التكتم على أثر الذرة الصفراء المعدلة وراثياً على صحة الحيوانات، الصناعة التي تبدو فيها الرشوة شيئاً طبيعياً (كتعامل شركة مونسانتو في اندونيسيا)، الصناعة التي انتهكت حقوق الإنسان في البرازيل (اغتيالات-المترجم) والصناعة التي لا تعلن في الأسواق الأمريكية أن منتجاتها معدلة وراثياً، هذه القائمة أقصر بكثير مما هي عليه هذه الصناعة من سوء!
هوامش : 1- ( البذار الناتجة عن زراعة هذه البذار المعدلة تكون عقيمة بحيث لا يمكن للمزارع أن يزرع في الموسم التالي من البذار التي ينتجها حقله بل لابد له من شراء البذار من الشركة ذاتها كل موسم فتتحقق تبعيته لهذه الشركة)1 شرح للمترجم .