إغلاق الحكومة الأمريكية والعجز عن سداد الديون: «بروفة عامة» قبل خصخصة نظام الدولة الفيدرالي؟ 2/2
ترجمة : نور طه ترجمة : نور طه

إغلاق الحكومة الأمريكية والعجز عن سداد الديون: «بروفة عامة» قبل خصخصة نظام الدولة الفيدرالي؟ 2/2

تستند «تقديرات» مكتب الميزانية التابع للكونجرس لفترة (2013 - 2022) على الافتراض بأن تدابير التقشف، والتي لم تُعتمد رسمياً بعد، ستؤدي إلى تقليص وإلغاء تدريجي أو خصخصة عدد كبير من البرامج الحكومية، بما فيها برامج الرعاية الصحية والمعونة الطبية والضمان الاجتماعي، التي مثّلت 45% من الإنفاق الحكومي في سنة 2012 المالية. وإلا فكيف سيكون تخفيض عجز الميزانية من 7% إلى 2% ممكناً في ثلاث سنوات مالية؟

وجرى، في الوقت نفسه، بدء التشريع في مجلس النواب الأمريكي لإجراء حدٍّ واسع في برنامج القسائم الغذائية* على مدى السنوات المالية العشر (2013 - 2022). حيث مرر المجلس مشروعَ قانونٍ يؤدي لخفض تمويل القسائم الغذائية بحوالي40  مليار دولار، على مدى عشر سنوات، وبالتالي، حرمان أربعة ملايين شخص من الاستفادة من هذا البرنامج في العام المقبل. هذا ومن المستبعد جداً أن يتم استخدام ميزانية وزارة الدفاع (19% من الإنفاق الحكومي) للحد من عجز الموازنة.

التيسير الكمي: إبقاء المركب عائماً

تتجسد إحدى المفارقات المريرة بأن مؤسسات «وول ستريت» المالية، المستفيد الأول من عمليات الإنقاذ الحكومية، هي ذاتها من يقوم بإقراض الحكومة الاتحادية التي كانت تحثُّ الخطا نحو إجراء هيكلية لتمويل العجز، تحت سيطرة وإشراف «وول ستريت»!!، ويتم التحكم في عملية تمويل العجز هذه - التي جرى تسهيلها عبر سياسة التيسير الكمي- من الدائنين، دون أن ينتج عنها فرص عمل جديدة، حيث أنها ليست عملية توسعية، ولا تأثير كبيراً لها على الاقتصاد الحقيقي.
وهذا يوضح الأثر الجوهري الذي خلّفته الهيكلة المالية، التي أجريت في أواخر عام 2008، على عملية تشكّل الديون. حيث تم توظيف الإيرادات الضريبية الخاصة بالحكومة الاتحادية، في الأعوام 2008- 2009، في إنقاذ المصارف، في الوقت الذي تسير فيه عملية تمويل اقتصاد الحرب بلا انقطاع، بما تتضمنه من تمويل لعدد متزايد من الشركات العسكرية والأمنية الخاصة عبر «ميزانياتٍ سوداء». هذا ولم تنجح سياسة التيسير الكمي - المتضمنة ضخ عشرات المليارات من الدولارات في الأسواق المالية- في تشكيل حافز إيجابي للاقتصاد الحقيقي.
وتم في الفترة الأولى من عمل إدارة أوباما، في عام 2009، منح المزيد من السلطة للجهاز المصرفي الاحتياطي الاتحادي - وهو كيان خاص غير خاضع للمساءلة - في إدارته للاقتصاد الأمريكي، بشكلٍ يطغى على نظام «التنظيم العام للنظام المالي» السائد.
يمتلك المصرف الاحتياطي الاتحادي حالياً2.1  تريليون دولار من مجمل الدين العام الأمريكي (16% من الديون الاتحادية)، كما تمتلك اليابان 1.1 تريليون دولار، والصين1.3  تريليون دولار من هذا الدين.
ولم تنتج هذه «الإصلاحات الاقتصادية الكلية» سوى ارتفاع في معدلات البطالة. حيث جرى إفقار الشعب الأمريكي - بما فيه الطبقة الوسطى - على يد مؤسسات«وول ستريت»، التي تمتلك القرار في قضية العجز عن سداد الديون والسقف القانوني للدين العام.
لم يعد أمام الحكومة الأمريكية، في ظل الضغوط التي تمارسها كل من «وول ستريت» والمجلس الاحتياطي الاتحادي، سوى الخيارات التالية:
- تقليص برامج الحكومة أو إزالتها تدريجياً أو نقلها من الخزانة العامة إلى قطاع الشركات الخاصة، مما يعني، بجميع الحالات، تسريح عشرات الآلاف من موظفي القطاع العام.
- عدم التفكير بأية إصلاحات رئيسية لهيكل المديونية من الكونغرس الأمريكي الذي قد يغير، جدياً، شكل العلاقة بين الحكومة من جهة، والمجلس الاحتياطي الاتحادي ورعاته في «وول ستريت» من جهة أخرى، ففي نهاية المطاف الدائنون هم من يقرر.
من شأن هذا الترتيب الرمزي أن يزيد، بشكل مؤقت، قدرة الحكومة الاتحادية على الاقتراض عبر إصدار أذون الخزانة والسندات الحكومية بحوالي تريليون دولار. لكن، وعلى الرغم من هذا، فإن ذلك لن يؤدي إلى الإبقاء على صلاحيات مصارف «وول ستريت» والمجلس الاحتياطي الفيدرالي وحسب، بل إلى تعزيز هذه الصلاحيات في إطار هذا المخطط.

خصخصة الدولة الأمريكية

يقود السيناريو المحتوم، الذي ظهر في أعقاب أزمة عام 2008، متمثلاً بـ «الانهيار المالي» إلى إمكانية التخلص التدريجي من البرامج الاجتماعية، أو تقليصها وخصخصة قطاعات واسعة من نشاط القطاع العام، أو الاثنين معاً. وبعد أن تم بلوغ السقف المالي، واحتمال وضع حد نهائي له، فإن الحكومة تخضع إلى ضغوط كبيرة من رعاتها في «وول ستريت»، لكي تحد من البرامج الاجتماعية وتقلصها، إضافةً للشروع في نقل المؤسسات والأصول العامة إلى قبضة الشركات الخاصة. ناهيك عن وجود اتجاه لتخفيض وخصخصة برامج الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي. هذا وقد تناولت وسائل الإعلام، في تقاريرها مؤخراً، قضية خصخصة الآثار العامة والمتاحف والمتنزهات الوطنية ومكاتب البريد و.. إلخ. بوصفها حلاً محتملاً لأزمة الديون.
من سخرية القدر أن تستطيع «وول ستريت» استخدام الأموال، التي نقلتها الحكومة الأمريكية إليها، تحت شعار «إنقاذ المصارف» في فترة 2008 - 2009 لشراء أملاك الدولة وأصولها !! وإن دلّ هذا على شيء، فإنه يدل على أن الحكومة الاتحادية لا تقوم بتمويل مديونيتها فحسب، بل أنها تمول أيضاً برنامج الخصخصة - وعلى نفقة دافعي الضرائب- مما سيؤدي في نهاية الأمر إلى زوال البرامج الحكومية.
ويتم نقل البرامج الحكومية القائمة إلى الشركات الخاصة عن طريق البيع المباشر للأصول المملوكة للدولة، أو عبر إسناد الخدمات الحكومية إلى القطاع الخاص. وكنتيجة للخصخصة وإعادة الهيكلة، سيتم الاستغناء عن أعداد كبيرة من الموظفين الحكوميين، وستُباع الخدمات الحكومية لعامة الناس، بأسعار تفوق الأسعار الحالية بكثير.

خصخصة المدن الأمريكية

إن عملية الاستيلاء على أصول الدولة في أمريكا تسير على قدمٍ وساق، وخصوصاً على مستوى البلديات والولايات. تتجه اليوم حكومات الولايات والحكومات المحلية، الغارقة في الديون والمحتاجة للسيولة بشدة، إلى خصخصة الأصول العامة باعتبارها حلاً لمشكلاتها. حيث يجري بيع أجزاء من البنية التحتية، التي سدّد «دافعو الضرائب» ثمنها مسبقاً، كمحطات معالجة المياه والمكتبات ومواقف السيارات والمطارات ومحطات الطاقة...الخ، في المزاد لمن يدفع السعر الأعلى.
تخضع معظم الأطراف الرئيسية الفاعلة في مجلسي النواب والشيوخ الأمريكيين، والتي تشارك في النقاش حول «إغلاق الحكومة»، لـ «لوبيات» شركاتية قوية، بما فيها «وول ستريت» بطبيعة الحال، وهذه الأخيرة هي من يقرر في النهاية نتيجة هذا النقاش. حيث أنها ليست في وضع يمكّنها من التأثير على نتائج سير العملية في الكونغرس فحسب، بل إن لديها أيضاً معرفة مسبقة بطبيعة وتوقيت القرارات الرئيسية، ناهيك عن وجودها في موقع يتيح لها جني مكاسب، بمليارات الدولارات، من المضاربة في أسواق المشتقات، كالمضاربة على النتائج السياسية التي يعرفونها مسبقاً.
إن الخصخصة الواسعة لأصول الدولة الاتحادية، والاستيلاء على الخدمات العامة وخصخصتها، هي المرحلة المقبلة من عملية إعادة الهيكلة الاقتصادية ذات الأثر المدمِر اجتماعياً.

عن موقع غلوبال ريسيرتش بتصرف

هوامش:
الرعاية الصحية* : برنامج تأمين يشمل من هم فوق 65 سنة، والمعاقين الأصغر سناً ومرضى الكلى، ويدفع المرضى فيه جزءاً من تكاليف العلاج.
المعونة الطبية* :برنامج مساعدة يشمل محدودي الدخل من كل الأعمار ولا يدفع المرضى أي تكاليف، حيث يتم دفعها من أموال الضرائب الاتحادية بشكل أساسي.
القسائم الغذائية* : قسائم تموينية تصدرها الحكومة لأصحاب الدخل المنخفض.