محطات تاريخية بمناسبة ذكرى تأسيس الاتحاد العام لنقابات العمال (2)
هاشم اليعقوبي هاشم اليعقوبي

محطات تاريخية بمناسبة ذكرى تأسيس الاتحاد العام لنقابات العمال (2)

لم يكتمل عام 1949 إلا بانقلاب جديد نفذه الشيشكلي في 19 كانون الأول منه، ليكون بمثابة إعلان عن دخول البلاد مرحلة جديدة عنوانها الحكم الديكتاتوري العسكري الأمني. فبالرغم من عدم نجاح الانقلاب الأول للعقيد الشيشكلي، إلا أنه عاد بانقلابه الثاني عام 1952 وحقق ما سعى إليه ببسط نفوذه وتجذير الحكم الأمني، حيث قام بحل المجلس النيابي المنتخب شعبياً وعيَّن رئيساً صورياً مؤقتاً أُسندت إليه السلطتان التشريعية والتنفيذية. وفي العام نفسه، أصدر قراره الاستبدادي بحل جميع الأحزاب السياسية، وقام بتنظيم (حركة التحرر العربية) لتكون بحكم الحزب الحاكم في سورية.

طوال هذه المرحلة، لم تتوقف الاعتقالات الواسعة في صفوف العسكريين والسياسيين المناوئين لسلطته. وحين ظن أن الأمر قد استتب له، أحال اللواء فوزي سلو إلى التقاعد ورشح نفسه للرئاسة (تحت ضغط الشارع عليه)، ونظَّم استفتاءً مدبّراً نجح فيه، ليشكل مجلساً نيابياً بأغلبية من حركة التحرر العربية، ليظهر للعلن رغبته في حكم ديكتاتوري شامل عبر إحكام قبضته على كل السلطات. وكان (المكتب الثاني) رأس حربة أدوات الاستبداد، الذي ضيَّق على الحريات السياسية والنقابية إلى أقصى حد، مما أطلق شرارة الاحتجاجات والإضرابات العمالية والطلابية المرافقة للانتفاضة الشعبية التي لم تتوقف على مدار أربع سنوات، رغم كل أشكال القمع والاعتقال والتهجير، استطاعت الانتفاضة الشعبية بزخمها واستمرارها تقويض دعائم الديكتاتورية.

في عهد الحكم الفردي العسكري للشيشكلي، صدر قرابة 150 قانوناً و300 مرسوم، أجهزت على المنجزات الديمقراطية التي انتزعتها الحركة الوطنية خلال عقدين ونيف من النضال الشعبي والسياسي. فقد سيطرت الحكومة سيطرة كاملة على الخدمات المدنية والمحاكم، ومنحت المحافظين حق منع العاملين في الدولة من الاشتراك في الإضرابات والنشاطات السياسية. ومن أكثر ما يثير الدهشة، التعديلات التي طالت قانون العمل، ومنها ما ورد في المادة 48 التي تقضي بأن يحلف القادة النقابيون يميناً بعدم الانتساب إلى أي هيئة أو حزب سياسي.

العمال وسلاح الإضراب

لم تتوقف الإضرابات، بل اندلعت بشكل أكبر في دمشق وحلب وحمص وحماة ومدن أخرى، وانتهت بحملة اعتقالات كبرى شملت عام 1952 العديد من قادة الحركة العمالية والطلابية والفلاحين والسياسيين. وبررت الحكومة ذلك بذريعة (مكافحة الشيوعية)، فعزلت جميع قادة النقابات التقدميين المنتخبين، وأصدرت مرسوماً يمنع العمال النقابيين من ممارسة النشاط السياسي. وهذا ما زاد من حدّة الإضرابات كمّاً ونوعاً، ومن أبرزها الإضراب العام في نيسان 1954 الذي شارك فيه عمال من 19 معملاً، وطرح المضربون إلى جانب مطالبهم الاقتصادية والقانونية مطالبَ سياسية تدعو للنضال ضد المعاهدات والأحلاف العدوانية. واستمر الإضراب أربعة أيام، وانضم إليه عمال من صناعات مختلفة، وشُكلت لجنة إضرابية وجهت نداءً لجميع العمال السوريين لدعم الإضراب والالتحاق به. فأرسلت الحكومة إلى حلب مجموعة كبيرة من رجال الشرطة مأمورة بإخماد المظاهرات بالقوة، لكنها خشيت من تعاظم الحركة فقدمت جملة من التنازلات أدت في النهاية إلى فك الإضراب.

دور العمال في إسقاط الديكتاتورية

في 3 حزيران 1954، حدثت إضرابات كبيرة لعمال الغزل والنسيج، ولاقت دعماً ومساندة من عمال مؤسسات ومعامل دمشق. وأكد المشاركون على ضرورة تلبية مطالبهم الاقتصادية والسياسية، وبعد رفض أرباب العمل لذلك، دعا اتحاد عمال دمشق واتحادات المحافظات إلى إضراب عام في 24 تموز. فاتخذت الحكومة تدابير عاجلة حالت دون تنفيذه، ودعت المجلس النيابي إلى عقد دورة استثنائية للنظر في المطالب. ووافق المجلس على منح العمال إعانة مالية في حال تسريحهم تعسفياً، تبعها قرار حكومي يحدد مسألة رفع الأجور.

طوال مرحلة حكم الشيشكلي، لم تتوقف الإضرابات والاحتجاجات رغم المواجهات الأمنية، وكان لأصحاب العمل نفوذ كبير لدى السلطة يستخدمونه ضد العمال. وانتهت حقبة الشيشكلي لتدخل البلاد عهداً برلمانياً ديمقراطياً حتى قيام الوحدة عام 1958، والذي كان آخر عهد من نوعه، حيث انتعشت فيه الحياة السياسية وتصاعد النضال النقابي الطبقي، وتعزز تعاون النقابات مع القوى السياسية الأساسية وعلى رأسها الشيوعيون.

العامل الذاتي يجب أن يبقى جاهزاً

يشير تاريخ الحركة النقابية في محطات كثيرة إلى أنه مع كل ارتفاع في مستوى الحريات السياسية، تزداد مكاسب الطبقة العاملة وحقوقها، ومع كل انخفاض تتعاظم الحاجة إلى تنظيم الصفوف وتفعيل أدوات النضال ومنها الإضراب. لذلك اضطرت الأنظمة الحاكمة إلى تقديم تنازلات تحت ضغط العمال، وهي تنازلات لم تكن طوعية بل إجبارية ناتجة عن تفاعل العوامل الموضوعية والذاتية.

وما كان يضمن تحقيق بعض المكاسب هو الاستعداد الذاتي الدائم للطبقة العاملة وحركتها النقابية، الذي ظل حاضراً من 1924 حتى منتصف السبعينيات. فبالرغم من قسوة مرحلة الوحدة بين سورية ومصر على الحياة السياسية والنقابية، إلا أن توسيع جهاز الدولة في عهد الوحدة ومن ثم حكم البعث حافظ على استمرار العامل الذاتي، وحققت الطبقة العاملة مكتسبات كبيرة في قوانين العمل والتنظيم النقابي والتأمينات الاجتماعية وتمثيل العمال في المجلس النيابي. لكن هذه المكاسب لم تستمر طويلاً، فمع بداية 1974، أطبقت سلطة الأسد الأب على مفاصل الحياة السياسية والنقابية، وعملت على إضعاف العوامل الذاتية للعمال عبر سياسات اقتصادية منحرفة وسيطرة رأس المال والفساد.

كي لا نخسر مجدداً

لم تحظَ الطبقة العاملة السورية منذ بداية تشكلها وحتى يومنا هذا بنظام يمثل مصالحها ويعبر عنها بل على العكس من ذلك تماماً وهذا ما جعلها على النقيض من السلطة بشكل مستمر، مما أكسبها تلك الروح الثورية والوعي الطبقي والسياسي الذي كان وما زال هدف الخصوم، الذين يعملون على تقويضها تارة واستنزافها تارة أخرى من خلال حرمانها من الحريات وحصتها بالثروة معاً، لذلك كان لزاماً عليها إعادة قراءة تاريخها ضمن تاريخ سورية واستخلاص النتائج والدروس والعبر وتكوين رؤية عميقة وعلمية مستندة على مرجعية فكرية طبقية وثورية، لتضع برنامجها النضالي وتنغمس بمعركتها الطبقية المفروضة عليها، كي تستطيع الحفاظ على بعض ما بقي من مكتسبات حصدها نضال الآباء كمهمة أولى وانتزاع كامل الحقوق الطبقية والاجتماعية والمعيشية كمهمة ثانية، مستفيدة من تغيرات كبرى على صعيد الواقع الموضوعي الدولي والمحلي، لعلها تجد في سنواتها القادمة وطناً قوياً قادراً ينجز بقواه الوطنية أعمق عدالة اجتماعية وأعلى نسبة نمو وأوسع حرية تليق به.

المَراجع: الطبقة العاملة وحركتها النقابية – عرض تاريخي توثيقي – إصدار الاتحاد العام لنقابات العمال.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1220