«تفضلوا أيها المستثمرون اليد العاملة عندنا رخيصة»
عندما يتم الحديث عن البطالة ويجري ربطها بالاستثمارات الداخلية والخارجية، فإنّ أوّل ما يقفز لتفكيرنا اليوم ليس صحة هذا الربط ودور الاستثمارات القادمة بتشغيل أعداد هائلة من العمالة المعطَّلة قسرياً فحسب، بل ونوع هذه الاستثمارات والقطاعات. هذا أولاً، وأمّا ثانياً؛ فما هي ضمانات حقوق هؤلاء العمال بوظائفهم الجديدة وعلى رأسها قيمة الأجور؟ فحالة البطالة التي تفاقمت في المجتمع أضعفت ملايين الأيدي العاملة، ويخشى أن يتم استغلال هذا الضعف لتبخيس أجورهم وهضم حقوقهم قبل أن يشتغلوا أصلاً، فرأس المال لن يرحمهم وسيكون حريصاً على تشغيلهم بأقلّ الكلف في حال تمكَّنَ من ذلك، فكلُّ ما يهمّه بالأمس والغد مقدارُ الأرباح التي سيجنيها، وهذا أساساً ما سيجعله يستثمر وينتفع أو ينكفئ ويمتنع، ولطالما سمعنا من هنا أو هناك بأنَّ ميزة «العمالة الرخيصة» توضع بأعلى قائمة المغريات الجالبة للاستثمار الخارجي، ليكون حال لسان المسؤولين «تفضلوا أيها المستثمرون اليد العاملة عندنا رخيصة».
لا نريد من مقدّمتنا هذه أن نُفهَم بأنّنا ضدّ الاستثمار وإطلاق الإعمار وبناء الاقتصاد المنهار، رغم تحيُّزنا بالمقام الأول لرفع قدرة القطّاع العام الحكومي وتمكينه ليكون الرافع الاقتصادي الأساس، وخاصة بالقطاعات السيادية والقطاعات الأكثر ربحاً، وتحيُّزنا بالمقام الثاني لرأس المال المحلّي الوطني ودخوله بكامل إمكانياته وقواه المالية والإدارية والفنية على القطاعات الإنتاجية الكبرى والمتوسطة، ليكون شريكاً حقيقياً للقطاع العام ومتكاملاً معه، كونه موضوعياً ابن البلد وله حسابات وطنية تضاف لحساباته الربحية، ولأننا نعلم بأن الاستثمار الخارجي لا بد منه، وخاصة بمرحلة الإقلاع اقتصادياً واجتماعياً، وكي لا ندخل بعلوم الاقتصاد التي لها علومها واختصاصيّوها سنكتفي بتوضيح هواجسنا العمّالية التي تعني هواجسنا المعيشية واحتياجاتنا الأساسية، ويمكن تلخيصها بالسؤال عن الضمانات الواجب توفّرها لحماية اليد العاملة والكادحة قبل البدء بالسياسات الخاصة بالاستثمار الموعود القادم، وتدفقه من الخارج، فليس من الصائب أن «نبخس الناس أجورهم».
عمالتنا ليست رخيصة بل نوعية
تتمتع اليد العاملة السورية بجملة كبيرة من الإيجابيات، بل إنّها تمتلك سمات مطلقة لن تجدها لدى شعوب أو أماكن أخرى، فالعامل السوري يجمع بين الكفاءة والالتزام والخبرة والإبداع والقدرة على التعلُّم وتحمّل الضغوط والأعباء والمسؤولية، وبالتالي لا بدّ من أن تقدّر قيمة هذه المميّزات التي طالما تغنّت بها الدول والشعوب الأخرى وأثنتْ عليها، بل وقدَّرَتْها حقَّ تقدير. لذلك وجب علينا أن نرفع من شأن عمّالنا ونعلم قدرهم وقيمتهم ونُجهّز البنية القانونية الخاصة بهذا، لتكون شرطاً من شروط الاستثمار بشكل عام، والخارجي منه بشكل خاص، سواء من خلال الدستور أو قانون العمل أو قانون الاستثمار، لتتحول ميزة ما يسمى «بالعمالة الرخيصة» لميزة العمالة النوعية الخبيرة، وبهذا نكون حقّقنا أهدافاً عديدة على رأسها ضمانُ حقوق اليد العاملة وأمنها الاجتماعي، وأجورٌ عادلة ترفع من قوتها الشرائية التي تعني قوة الاستهلاك الضروري لتنشيط الاقتصاد الوطني.
الحلول المؤقتة
لا توقف نزيف اليد العاملة
من أسوأ ما تعرضت له البلاد خلال سنين الأزمة العجاف، ذلك الكم الهائل من نزيف الأيدي العاملة المهنية والفنية الخبيرة التي تضاف لخسارة هجرة العقول، وهي لا تقل أهمية عنها، لتصب لصالح أسواق العمل في عشرات الدول العربية والقارات الخمس. فأفرغت البلاد من تلك الكفاءات العلمية والعملية والفنية والمهنية. ولكن هذا النزيف لم يكن حكراً على سنين الأزمة بل قبلها بكثير، ولو بنسبة أقل، فتاريخيّاً لم تشهد سورية سياسات حكومية توقف هذه الظاهرة، وإنْ نجحت في بعض الأحيان بحَسرها قليلاً، فأغلب حالات الانحسار تلك كانت بفعل الخارج لا بفعل إجراءات اقتصادية حكومية. على كل حال فإنّ مقولة «أعظم ثروات البلاد هي الثروة البشرية» لصحيحٌ بالمطلق، لكن ذلك يستدعي التعامل معه كثروة يجب الحفاظ عليها بالدرجة الأولى، وضمان استمراريتها وحقوقها الكاملة بالدرجة الثانية، والأُولى تستدعي الثانية حُكماً، وعليه فمن الواجب الدفاع عنها كالدفاع عن باقي الثروات، بل وأكثر فدعائم الوطن ترتكز على زنود وعقول هؤلاء أولاً، كلّ هذا لا يؤمِّن وقف النزيف فحسب بل هي كفيلة باستعادة مئات الآلاف من الأيدي العاملة المسافرة والمهاجرة التوّاقة للعودة إلى بلادها ومربى صباها لتنهي سنوات التيه القسري الذي لا يُطاق.
البطالة الواسعة ظاهرة تاريخية
تتفق جميع الأطراف على نسبة البطالة المخيفة اليوم، التي وصلت لمستويات كبيرة جداً لا يمكن إحصاؤها علمياً، ولكن يمكن ملامستها واقعياً وتقدير حجمها بسهولة ويسر، خاصة بعد جملة التطورات الأخيرة التي تلت سقوط سلطة النظام البائد، وهذا لا يعني بأنها ظاهرة جديدة بل على العكس تماماً، جاءت نتيجة تراكمات سنوات وسنوات من سياسات اقتصادية اجتماعية متوحّشة وهدّامة، والتطورات الأخيرة زادتْ عليها بشكلٍ واضح ومتسارع نتيجةَ تأثير التراكمات السابقة التي لم يجرِ حلُّها أو الالتفات إليها من جهة، ونتيجة الانتقال المفاجئ للسلطة إلى حكومة تصريف الأعمال، التي ظهر جلياً عدم امتلاكها لنهج اقتصادي متكامل ولا برنامج عمل، من جهة أخرى، فملايين العاملين المعطَّلين قسريّاً سابقاً زادت أعدادهم ملايين إضافية أخرى، يعانون من بطالة كليّة أو جزئية، لا يمتلكون أدنى فكرة عن «بكرة شو مخبيلهم»، مع أنهم يتابعون تصاريح يومية من المسؤولين تعدهم بالعمل الوفير والعيش الرغيد بمجرد أن بدأ الاستثمار الخارجي بالتوافد إلى البلاد للاستثمار فيها. وليس من الصعوبة رصد حال سوق العمل اليوم كمّاً ونوعاً ففرص العمل نادرة للغاية من حيث الكم، لكن هناك ظاهرة أخرى أيضاً تحتاج للرصد وهي تحول أعداد هائلة من الأيدي العاملة الفنية والعلمية والمهنية لأعمال خارج اختصاصاتهم بالكامل، أو عمل لا يحتاج إلى اختصاص بالأصل؛ كسائقي سيارات الأجرة والميكرو باص والبيع على البسطات والأكشاك، وأعمال العتالة والفعالة وتنظيف البيوت، وغيرها من الأعمال التي لجأ إليها هؤلاء لعدم وجود عمل في اختصاصهم الذي يجيدونه ويبدعون فيه. فبتنا نرى محاسباً يشتغل نادلاً في مطعم، وعاملة خياطة تشتغل بشطف أدراج الأبنية، وسكَّابَ معادن يشتغل على بسطة بنزين... وتدل هذه الأمثلة على بطالة جزئية نوعيّة لا يمكن حلّها خارج الحلول العامة التي نأمل أنْ يبدأ مسارُها عاجلاً غير آجِل.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1213