«نسيانين اللي تحت»
فرح عمار فرح عمار

«نسيانين اللي تحت»

خرجت أم زهير من أحد حشود الاحتجاجات لتلتقط أنفاسها بعد دقائق طويلة من الهتاف، ووقفت تحت أشعة الشمس. أجرينا معها دردشة لعلّنا نحظى ببعض الأجوبة الخاصة، التي انصهرت بالمطالب العامة الجارية على ألسنة المحتجين، ولافتاتهم وشعاراتهم الرافضة للتسريح والإجازات القسرية والاستبعاد.

ما قصتك يا خالة؟

أنا موظفة بإحدى مديريات كهرباء ريف دمشق منذ 23 عاماً، كلها مليئة بالتعب والإجهاد، وما بخلت يوماً بعمل أو وظيفة، ولي قصة طويلة مع عملي مليئة بالمشاكل والمد والجزر، وكنا دائماً نتجاوزها بطريقة أو بأخرى، لأننا نعلم أهمية وظيفتنا باستمرار الخدمات ومصالح الناس. أنا متزوجة وعندي ثلاثة أولاد وبنت. في بداية الأزمة ثارت جموع من شباب الحارة في أحد أحياء الحجر الأسود، وما هي إلّا أسابيع حتى عمّت أغلب الأحياء. وكان ولدي زهير من ضمن هؤلاء الشباب، في حين كان محمد بعمر 13 سنة، وعدنان 11سنة. وبعد ثلاثة أشهر تم القبض عليه بمظاهرة مخفر القدم واختفى لمدة طويلة. علمنا بعد اضطرارنا لدفع الرشاوي بأنّه في أحد الأفرع الأمنية، وكنا نظنّ بأنه سيخرج عاجلاً أم أجلاً. وبعد طول انتظار قرَّر والدُه التحرّك من أجله، فاختفى هو الآخر، وبالمحصلة في عام 2016 تم إبلاغنا بوفاتهما في سجن صيدنايا، واستلمنا الهويَّتَين الشخصيَّتَين لهما، وطبعاً خلال هذه السنوات نزحنا من بيتنا الذي تهدَّم بالكامل، واستأجرتُ منزلاً في منطقة دفّ الشوك. ورغم كل الصعوبات المعيشية تدبرنا أمورنا براتبي وبعمل أولادي؛ حيث عملت ابنتي في أحد محلات بيع الألبسة في التضامن، وعمل الولدان في مطعم شاورما قريب من بيتنا المستأجَر دون أن يتركوا المدرسة.

هل تتجزأ خسارة السوريين؟

في 2018 طُلبَ محمّد للخدمة الإلزامية، وكما بات واضحاً لكِ يا ابنتي لا نملك خياراً آخر؛ فالفقير ليس أمامه حلول، خاصةً أن محمد صار رجلَ البيت وأصيب في إحدى المعارك وتوفّي في المشفى «راح من كيس حالو»، وكدت أنْ أنهار لولا مسؤوليَّتي عن البنت وعدنان، فبعد كلّ ما خسروه ما كان أمامي إلّا أنْ أتجاوز مصيبتي الجديدة وأمضي قدماً. وكانت الأوضاع المعيشية والغلاء تزداد يوماً بعد يوم، وأصابنا الفقر الشديد، واستطعنا توظيف عدنان ضمن مسابقات ذوي الشهداء، وعَمِلَ في مؤسسة المياه بناء على ذلك، وأصبح له راتبٌ ثابت يساعدنا به، بالإضافة إلى راتبي وراتب البنت، ومجموعهم لم يكفِ لتسديد أجرةِ المنزل وسدّ الجوع.
أوّل مصائبِنا خلال الأسابيع الماضية كانت إنهاء عقد ابني عدنان كونه مُعيَّناً بمسابقة ذوي الشهداء. ومنذ خمسة أيام مصيبة أخرى، حيث ظهرت قوائم الإجازة القسرية لمدة ثلاثة أشهر الخاصة بمؤسستنا، متضمّنة اسمي، وبأن راتبي القادم لن أقبضه حتى أوقّع براءة ذمة، وهذا يعني فصلاً بطريقة «أكابرية»، وإلّا فما مبرّر براءة الذمة؟ لهذا خرجتُ أنا وولدي في احتجاجات اليوم، لأننا نرى في القرارات ظلماً كبيراً وكأننا نحاسَب على ما حاسبَتنا عليه الأزمة ألف مرة، وكأننا كنا في أوروبا نرتاد الشواطئ والمنتزهات؟! ألسنا أبناء البلد؟ ألسنا سكان العشوائيات التي وقعت بيوتنا فوق رؤوسنا؟ ألم نخسر زينة شبابنا ورجالنا بطرق مختلفة؟ أليس هذا كافياً؟ أريد أن أعرف اليوم لماذا هذا الدفع المستمر الذي ندفعه، وثمنَ ماذا؟ ولأجل ماذا؟ أم أننا مجرد أرقام لا تهمّ أحداً؟ «ليش نحنا اللي دايماً بدنا ندفع التمن؟ ليش مو الحرمية والفاسدين والمجرمين وأمراء الحرب اللي باعوا فينا واشتروا؟ مين بدو يعوضنا عن شهدائنا أو قتلانا سمّوهم شو ما بدكم... المهمّ ما تنسوا إنو ماتوا وهن سوريين، ماتوا سوريين، ماتوا وهن فقرا ومعترين ورضيانين براتب ما بطعمي ولد»، لأجل ذلك يا ابنتي نحن موجودون بالاحتجاجات، لأنَّ مَن هم فوق ما زالوا فوق «ونسيانين اللي تحت».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1212