احسبوها منيح...
هاشم اليعقوبي هاشم اليعقوبي

احسبوها منيح...

هل نكون من المبالغين إنْ فسَّرْنا ما يجري بمعامل ومؤسسات القطاع العام بالارتجال والفوضى وسوء التدبير والظلم؟ وإنْ أطلقنا على الطبخات الحكومية الجارية «طبخة بحص»؟ أم سيقال بأننا أصحاب الأحكام المسبقة وبأننا نصطاد الهفوات الجارية «ونعمل من الحبة قبة»،

كي نعكر صفاء المرحلة ونخرب فرحة الخلاص من سلطة الفساد والاستبداد ودخول مرحلة «الحرية والعدالة»؟ هل نتمهَّل قليلاً بإطلاق أحكامنا نزولاً عند رغبة المروّجين لمقولة «عطوهم وقت»؟ أم ننكر واقعنا الفعلي، ونحلِّقُ بأحلامنا المستمدة من الشعارات والوعود والخطاب الودّي المطمئن، ونصدِّق النوايا الطيبة التي انهمرت على مسامعنا بكلِّ لقاء مع وزيرٍ أو معاونٍ أو مدير، ونقول «الشباب نيتهم طيبة»، وبأنَّ هذه القرارات التعسفية المجحفة التي قطعت أرزاق مئات آلاف العمال والموظفين مجرَّد أضرارٍ جانبية غير مقصودة، كون النوايا طيبة وهدفها إعادة هيكلة مؤسَّسات الدولة، وإصلاح بنيانها المهترئ والفاسد والمتخلّف؟ فلا بأسَ إذاً بأنْ نضحّي بالقطاع العام ومؤسساته ومعامله وموارده البشرية، وبلقمة أولادنا وسترة بيوتنا لأجل النوايا الطيبة التي لا تريد إلّا الخير للبلاد والعباد، والتي ستجعل سنغافورة بذاتها تحسدنا على ما سنصير عليه! وإنْ لم نصلْ إليه فيكفي أننا نوينا عليه!

سُرعةُ القرار وسِعَة الأضرار

سارعت حكومة تصريف الأعمال عبر ممثليها المكلَّفين بالوزارات والمديريات باتخاذ قرارات إدارية ومالية خاصة، وقرارات أخرى تتعلَّق بالموظَّفين والعمال المسجَّلين على ملاكها، وذلك بعد مضي أيام قليلة على استلامها لتلك المسؤوليات. وأقلُّ ما يمكن أن نقول عنها بأنها متسرّعة للغاية، فجهاز الدولة في سورية جهاز ضخم جداً وقديم، لَمْ يَجْرِ تحديثُه لعقود خلتْ، وفيه ما فيه من تعقيدات في علاقات المؤسسات والمديريات والوزارات وحتى النقابات مع بعضها البعض، ناهيك على أنَّ لكلِّ مؤسسة خصوصيّتها وآلياتُ عملها الخاصة بها. أضفْ على ذلك تراكمات عقود من البيروقراطية والفساد الإداري والمالي أيضاً. ولا يخفى على أحد جملةُ التقاليد الراسخة بالعمل الحكومي والذي نشأ في رحم القوانين الناظمة للعمل الحكومي بين المؤسسات، مما زاد من تعقيداته، ولطالما سأل المواطن نفسه إذا ما دخل دائرة حكومية هنا أو هناك: كيف تسير المعاملات في ظل هذه الفوضى التي نظَّمها أصحابها بطريقتهم الخاصة؟ وبدل أنْ تأخذ الحكومة وقتها الكافي في دراسة واقع جهاز الدولة بشكل عام، وكلّ مؤسسة ومديرية بشكل خاص، اكتفت باتخاذ قراراتٍ غير مدروسة مستندةً على عناوين كبيرة مسبقة وجاهزة؛ كالترهُّل الإداري والفساد والبيروقراطية والتخلّف وفائض العمالة والواسطات... وكأنّها اكتشفتْ ما لا يعرفه طالب ابتدائي يعاني منها في مدرسته. إنّ التسرُّع بالإصلاحات أو التغييرات عبر قرارات متتالية، لم يكن صائباً نهائياً، كونها انطلقت من تلك العناوين لا من دراسة الواقع وفهم الأمور والقضايا بشكل عِلمي دقيق وعميق. ويتجلَّى ذلك مثلاً بحلِّ مؤسساتٍ ومنظماتٍ بأكملها، مثل السورية للتجارة، والمؤسسة العامة للتجارة الخارجية، واتحاد الفلاحين، وغيرها الكثير... كما تظهر أيضاً بتلك القرارات الخاصة بالمعلِّمين مثلاً، وبالفصل التعسّفي الواسع، التي أطاحت بالكثير من الموظفين الأكفاء وتركتْ عدداً من الوهميِّين والواسطات بناءً على توصيةِ مديرٍ فاسد بَلَغَ مِن الفساد عتيّاً.

قراراتٌ متضاربة وتراجعاتٌ صائبة

اتّخذَ المسؤولون خلال الأسابيع الماضية مئاتِ القرارات الخاصّة بالعاملين في الدولة، مِن كفِّ يدٍ إلى فصلٍ وعدم تجديد عقود سنوية، وإجازة قسرية، في مديرياتٍ ومعاملَ على طول البلاد وعرضها. وأخذت الاعتراضاتُ أشكالاً متعددة؛ من كُتُبِ تَظَلُّمٍ وطلبِ مقابلةٍ لوزير أو معاونٍ أو مدير، لاعتصاماتٍ واحتجاجاتٍ كبيرة وصغيرة. والملفت في مجمل القرارات أنّها بدأت شفهيةَ بالكامل، ولم تكنْ مرتكزةً على قاعدةٍ واحدة، أيْ أنَّها كانت بلا مبادئ ومعايير واضحة، وكأنّ لكلِّ مسؤولٍ سياسته ومعايره الخاصّة غير المفهومة، ولكنها توحَّدتْ بعنوان «مقتضيات المصلحة العامة»، وبأنّنا ننوي إصلاح ما أفسده النظام البائد، وسنعيد هيكلة جهاز الدولة، ونيّتنا التخلّص من «فائض العمالة» والترهّل الإداري والتسيّب الوظيفي. ولكن ما الذي حصل بعدها؟ اكتشفَ العديد من أصحاب القرار بأنّهم بقراراتهم هذه أضرّوا بالعمل المؤسَّساتي، وحصل فراغٌ كبير في بعض الوظائف والاختصاصات، كونهم سرّحوا أو أوقفوا موظفين أكفّاء وأساسيّين، يفقهون بآليات العمل ونظامه المتكامل، مما جعل أصحاب القرار يعدِّلون قرارهم بشكل مباشر، أو عن طريق الوزارة، كما حصل مثلاً مع موظَّفي البنك العقاري؛ حيث أعادوا أكثر من ثمانين موظفاً طالتْهم القراراتُ الجائرة، فيما اكتفتْ بعض الوزارات بالإبلاغ عن إعادة النظر بالقرارات التي أصدرتْها وبأنّها قيد الدراسة وستصدر قراراتها لاحقاً. بالإضافة إلى ذلك لم تجرِ مثلاً دراسة العاملين المقترضين من البنوك العامّة والخاصة الذين سُرِّحُوا، ومصير تلك القروض، التي كانت تُقطَع أقساطها من الرواتب مباشرةً، وحال الكُفلَاء الذين سيتوقَّفُ راتبهم بمجرّد امتناع المقترضين عن السَّداد، وما سينعكس عليهم لاحقاً مِن ملاحقات قضائية، «يعني فوق الموت عصة قبر».

أوقفوا المظالم وشاركوا الجميع بالقادم

منطق الحال يقرّ بوجوب التراجع عن كلّ القرارات التي لها تأثيرٌ يتجاوز صلاحيّة تصريف الأعمال، بدءاً بالخصخصة المروَّج لها، وانتهاءً بإعادة هيكلة الملاكات البشرية لجهاز الدولة، وذلك ريثما تتشكل حكومةٌ انتقالية شاملة تقوم بمشاركة الجميع، وعلى رأسهم التنظيم النقابي، والقضاء المختص بدراسة موضوعية وعلمية لواقع جهاز الدولة وبرنامج إصلاحه وإعادة هيكلته وتأهيله ومحاسبة فاسديه، بعيداً عن تفكيك المؤسسات أو حلّها وتسريح العمّال دون قواعد قانونية حقوقية. عندها فقط نستطيع القول بأنّ النوايا طيِّبة، لأنَّ الاستمرار بالمسار الحالي ينفي تلك الصفة عنها؛ فلا خير في أقوالٍ لا تقرنها الأعمال، والأمور تقاس بنتائجها. فليعقلْ أصحابُ العقل، فقوّة الوطن بقوّة بمؤسساته، وتماسك المجتمع واستقراره يتحقق بالأمان الوظيفي والمعيشي والعدالة الاجتماعية الحقيقية التي تحمي الطبقات الأشد ضعفاً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1212