الأُسر العمالية وسقوط مقولة «ما حدا بنام جوعان»
لن نجد من يعترض علينا إنْ قلنا بأنّ الوجبات الثلاث المشبِعة أصبحت ترفاً تحتكرهُ قلّة قليلة من السوريين، ومن المؤكَّد أنَّ الأسر العمّالية المعتمِدة على الأجور ليست منهم، ليس لأنّهم لا يرغبون بها وهم الأكثر احتياجاً لها، بل لأنّ الأجر الأعلى في سوق العمل غير قادر على سد احتياجات الأسرة السورية من الطعام والشراب. وهنا يأتي السؤال: ماذا تأكل الأسر العمّالية كي تبقى على قيد الحياة؟ وهل ترتقي هذه الظاهرة لفكرة الإعجاز؟ وإنْ كانت كلُّ المؤشِّرات والدراسات، وعلى رأسها الصادرة عن الأمم المتحدة، تؤكّد أنّ أكثر من نصف السوريين باتوا فاقدين للأمن الغذائي الذي يؤثِّر بشكلٍ مباشر على الأمن الصحي والتعليمي والاجتماعي والوطني أيضاً، فهل فعلاً سقطت مقولة «ما حدا بنام جوعان بالبلد» أم هناك روايةٌ خيالية يحبّها البعض ويتغنّى بها.
توجَّهنا إلى بيت أم زاهر، وهي موظَّفة في القطاع العام (فئة خامسة) بإحدى مديريات ريف دمشق، وتعمل في البوفيه وتبلغ من العمر 44 عاماً. رحبت بنا بوجهها البشوش المصفَرّ والمجهَد وبحيويتها العفوية، حاملةً بيديها، اللتين تعكسان بصدق ما مرت به هذه السيدة من سنين عجاف مليئة بالمعاناة والقسوة، صينيةَ الشاي الدافئ.
بادرنا بسؤالها عن واقع حياتها، فحدّثتنا باسترسال:
«والله يا بنتي ما كان وضعنا منيح بالأساس بحكم أنا وزوجي موظفين بس الأُمور صارت أصعب بعد وفاتو، صحيح في معاش زوجي الله يرحمو بس كنا بالأساس مو معتمدين على رواتبنا بحكم أنا وياه كنا نشتغل شغل تاني، وكانوا الولاد لسا صغار. ومتل ما بتعرفي كل سنة عن سنة العيشة عم تغلا أكتر وأكتر والرواتب نزول. هلق راتبنا صار شي 300 ألف، يعني باليوم 10 آلاف. وعم طلع من شغلي التاني يومية شي15-20 ألف فشو بدهم يعملوا 30-40 ألف باليوم، هدول ما بطعمونا وجبة، إذا البيضة صارت بألفين، وقرص الفلافل بـ 500. صدقاً بتمر علينا أيام منقضيها خبز ولبن، وأحياناً صحن برغل من برغلات الضيعة أو كشك، وهيك يعني... لأنو ما فينا كل يوم نطبخ، شو بدنا نطبخ بهيك مبلغ؟ بتعرفي كيف بحدِّد شو طبخة اليوم؟ أرخص نوع خضرة بالسوق؛ يعني خضرة الموسم شو الأرخص باخدو، وأكتر الشي أكلات الزيت لأنو زيتات الضيعة بيسندونا شوي وبوفّروا علييّ، وإذا حدا قلك ما حدا بنام جوعان لا تصدّقيه، أنا وعيلتي وكتير عيلات بعرفها، صرلنا سنين بتمر علينا أيام بنّام جوعانين، وأوقات منكتفي بخبز البطاقة ودبس بندورة».
سلسلة الأمن الاجتماعي تتداعى تباعاً
أضافت أم زاهر: «شغلي التاني هون بالبيت -مشان الولاد ودراستهم- بشتغل بمونة الناس؛ بقمِّع بامية وبنظّف ملوخية، بلفّ يبرق... هيك يعني، وعندي شغل دايم مع مطعم طبخ بالميدان بحضرلو الخضرة وخلافو، وكل فترة بتزيد يوميتي شوي بس مو كافي، وناطرة زيادة رواتبنا بالدولة اللي منضل ننوِعِد فيها بس بالحكي، كلّ هاد عم يأثّر عصحّتنا وخاصة الولاد، كل ما بيمرض حدا منهم أو باخدو عالمستوصف بقلولي نقص مناعة وقلة غِذا، والله المستعان».
وتابعت أم زاهر: «ابني زاهر الله يسلمو عمرو 12 سنة، من 3 سنين وهو بشتغل بالصيف توصيل طلبات للبقالية اللي جنبنا، بطلعلوا كم ليرة بسكّر فيهم الدين اللي بكون مراكم عليّي من الشتا، وبزعل عليه لساتو صغير عالشغل والتعتير، وبنتي الكبيرة أصغر منو بسنة كمان بتساعدني بشغل البيت، بس أنا بضل بركّ عليها بالدراسة مشان ما تتوظّف متل وظيفتي، يمكن من هون لتكبر بصير الشغل مُجدي وبطعمي خبز وبيفتح بيوت، لأنّو ما في شغل بهالبلد بعيِّش عيلة، وخاصة هالوظايف. تخيّلي السائق اللي بيجي بياخد الخضرة من عندي للمطعم متخرِّج اقتصاد، بس أنا بضل متفائلة إلا ما تتغير الأحوال ويصير للشغّيلة يوم من الأيام قيمة وحق».
الفقر يفعل ما عجزت عنه الحروب
تخبرنا عاملة القطاع العام وتقول: «ترباية الولاد بهالظروف صعبة كتير، وبضلني خايفة عمستقبلهم، عم يكبروا ونحنا ناطرين شي يغير هالحال كلّو، بدي ياهم يشبعوا اللقمة ويكملوا دراستهم. وبتعرفي الفقر شو بيعمل؟ الفقر ممكن ياخد الولاد لمكان مو منيح أبداً، عم نسمع ونشوف بعينّا ولاد وشباب معبّين الشوارع وبرات مدارسهم، وعم يشتغلو شو ما كان، والله هالشي بخوف كتير، إذا كنا لازم نخاف من شي بهالبلد، لازم نخاف من الفقر، وصدّقيني أديش مرّ عالبلد حرب وحصار وموت وتهجير شباب، الفقر أشدّ بلوى وأخطر من كل هاد، لأنو الجوع كافر والحرمان بيقهر، خاصة وقت يكون في ناس عايشة عيشة ملوك قدام عينك سرقت ونهبت وعملت اللي ما بيعملو عدو، والكل مطنشنا ورافع إيدو عنا. لمين تاركينا هالمسؤولين لمين ما حدا بيعرف.
بوظيفة الدولة بتعرفي بيطلعلي كم ليرة من صندوق النقابة وأحياناً بوزّعوا علينا شويّة مساعدات، بس ما بيعملوا شي أبداً، أنا واللي متلي بحاجة نفض كامل، بيلزمنا حلول تغير حالنا وتنهضنا نهض. البيت ليضل مفتوح بدو أكتر من 200 ألف باليوم، وإذا ما معك هيك رقم فأكيد في حرمان من كتير شغلات، وأهمها الأكل والشرب. بفيق الصبح بلفّ سندويش إلي ولزاهر والبنتين، بياخدوهم معهم عالمدرسة يفطروا فيهم، وولادي تعودوا ياكلو سندويشة الصبح وسندويشة آخر الدوام، لأنو بالبيت ما بقا مناكل غير وجبة وحدة والحمد الله على كل حال.
موقف طبقة بأكملها
غادرنا منزل أم زاهر محملين بأفكار تعجز عنها الكتب والمؤتمرات، فكل محور من محاور حديثها كان يختصر رؤية طبقية للواقع كما هو بعيداً عن التشويه أو التجميل، وهو بحد ذاته موقف طبقي يعبّر عن مجمل الطبقة العاملة أينما كانت، وعن واقع الأسر العمالية التي أصبحت خارج حسابات الحكومات المتعاقبة أكثر من ذي قبل، ولا سبيل لخروجها من قاعها المظلم غير نهج اقتصادي وطني يبنى على مصالحها أوّلاً وآخِراً.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1200