الطفولة تُزج بسوق العمل
الحرب والأزمة والوضع المعيشي المتردي والواقع الإنساني الكارثي الذي وصلت إليه حال السوريين دفعت بالكثير من الأطفال إلى سوق العمل، ليكونوا فريسة الاستغلال في هذا السوق الذي لا يرحم، بالإضافة إلى الأثمان الباهظة الأخرى كلها التي تحملوها.
تنامت بشكل لافت ظاهرة عمالة الأطفال السوريين خلال أعوام الحرب والأزمة، ليس على المستوى الداخلي فقط بل في بلدان اللجوء وفي المخيمات الحدودية المنتشرة في الدول المجاورة، وذلك على حساب سني الطفولة وعلى حساب التحصيل والتأهيل المدرسي والتعليمي.
سياسات الإفقار هي السبب
الآلاف من الأطفال «إناثاُ وذكوراً» في مختلف المدن والمناطق والقرى والبلدات السورية باتوا خارج العملية التعليمية بسبب الحرب والنزوح والتشرد واللجوء، وبسبب السياسات الاقتصادية التي ساهمت بشكل مباشر في تدني مستويات الدخول، بل وانعدامها عند فئات شعبية واسعة أوصلتهم لحدود الفاقة والعوز، بمقابل زيادة الأرباح لدى شريحة صغيرة من كبار التجار والفاسدين وتجار الحرب والأزمة.
ومع ضغط الحاجة الاقتصادية المعيشية، وفي معرض البحث عن الإعالة بدأ الأطفال بشق طريقهم في البحث عن العمل في سوق منفلت من أية ضوابط، من أجل المساعدة في إعالة عائلاتهم المنكوبة، خاصة وقد أصبح غالبية السوريين يعانون من الفقر المدقع والجوع، إضافة إلى معاناة النزوح والتشرد وغيرها الكثير من التداعيات السلبية الأخرى، بل بعض هؤلاء هو المعيل الوحيد لأفراد أسرته.
أعمال مجهدة وخطيرة
بات مشهد الأطفال المنتشرين كباعة جوالين أو على بسطات البيع أو أمام المخابز مشهداً اعتيادياً عاماً على طول الرقعة الجغرافية السورية، إضافة إلى مشاهدتهم وهم يقومون بالتسول هنا وهناك، وتحت ضغط الحاجة أصبح جزء هام من هؤلاء ضحية مباشرة للاستغلال من قبل أصحاب الأعمال بأشكال متعددة، بعضها لا يمت للإنسانية بأية صلة، حيث بات بعض هؤلاء يستخدمون الأطفال للقيام بأعمال مهنية بحاجة للقوة الجسدية كالحمل والعتالة وجر العربات، أو في أعمال الحدادة والبيتون وجبل الاسمنت، أو بعض المهن ذات الطبيعة الخطرة صحياً مثل معامل الصابون والمنظفات وغيرها من الصناعات المرتبطة بالمشتقات الكيماوية مثل معامل البلاستيك وصب القوالب، ناهيك عن الأعمال الأخرى التي نشطت فيها عمالة الأطفال مثل معامل الحلويات ومعامل الألبسة وغيرها الكثير من الأعمال في الورشات الصغيرة والكبيرة المنتشرة في المدن والأحياء، بالإضافة لبعض الأعمال بمجال الإنتاج الزراعي والحيواني، مع ما يرتبط بهذا الإنتاج من تعرض للمبيدات والأسمدة وغيرها من المواد الخطرة، ناهيك عن بعض الأعمال الشاقة مثل الحراثة والحصاد.
ساعات طويلة وأجور منخفضة
لم يقتصر الاستغلال على هذا الجانب فقط بل تعداه إلى معدلات الأجور المنخفضة التي يتقاضاها هؤلاء الأطفال لقاء عملهم وجهدهم بالمقارنة مع غيرهم من العمال الأكبر سناً الذين يقومون بالأعمال نفسها بأجور أعلى، بالإضافة طبعاً لمقاييس الأجور المتدنية بشكل عام مقارنة مع الاحتياجات المعيشية، كما أن أرباب العمل وفي استغلال أكبر لحاجة هؤلاء وضعفهم يفرضون عليهم ساعات عمل طويلة تتجاوز أحياناً الـ 10 ساعات عمل متواصلة يومياً، بغض النظر عن الساعات المهدورة على الطرقات والحواجز ومشقاتها الخاصة، ليصل الطفل إلى مكان مبيته ليلاً منهكاً وتعباً بعد يوم عمل طويل وشاق.
طفولة مستهلكة ومستغلة
كما أن بعض الفصائل الإرهابية المسلحة في المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة باتوا يستغلون الأطفال في الأعمال الحربية أيضاً، مستغلين الحاجة المعيشية والوضع المنفلت والسطوة التي يمتلكونها في تلك المناطق، ناهيك عن عمليات خطف الأطفال التي تجري هنا وهناك بغاية بيع الأعضاء والإتجار بها، أي عهر أكبر من ذلك!.
وإذا أضفنا إلى ذلك كله ما يمكن أن يتعرض له بعض هؤلاء الأطفال من ممارسات الضغط والاضطهاد وحتى الضرب والتحرش الجنسي أحياناً، ندرك كيف أصبحت الطفولة مستهلكة ومستغلة ومباحة على أكمل وجه، وذلك كله يتم ويجري بعيداً عن أعين الرقابة الغائبة والمغيبة، اعتباراً من المؤسسات والجهات المعنية بالتربية والتعليم مروراً بالمؤسسات والجهات المعنية بالعمالة وحقوق العمال والتأمين عليهم، وليس انتهاءً بالجهات والمؤسسات المعنية بالرعاية الاجتماعية أو برسم خارطة المستقبل، سواء كانت تلك الجهات والمؤسسات عامة أو خاصة.
آثار هدامة
الحديث عن عمالة الأطفال والاستغلال والجشع القائم بحقهم ليس من باب الوقوف على حقوق العمل الخاصة بهم منعاً لهذا الاستغلال أو للحد منه فقط، بل للإشارة إلى ما هو أخطر وأعمق من ذلك بكثير، فإذا كان الأطفال السوريون بظل الأزمة وتداعياتها باتوا جميعاً بحاجة للدعم النفسي بسبب ما تعرضوا له خلال الحرب والأزمة، وبحاجة لأدوات ووسائل تعيد المتسربين منهم إلى صفوف التعليم، فإن الجزء من هؤلاء الأطفال والذين انخرطوا في سوق العمل بشكل مبكر جداً هم بحاجة لأكثر من موضوعة الدعم النفسي، فآثار الحرب والأزمة على هؤلاء أصبحت أعمق بكثير جراء الاستغلال المباشر بأشكاله وأساليبه المتعددة، مع واقع انتشار الجهل في صفوف هؤلاء وما يمكن أن يحمل بطياته من آثار مستقبلية هدامة على المستويات كلها.
المستقبل يفرض
تغيير السياسات
وإذا كانت الطفولة هي المستقبل، فعن أي مستقبل يمكن أن نتحدث ونحن نرى ونشاهد ونسمع عن أوجه الاستغلال لهذه الطفولة بأبشع صورها؟!، حيث وفي تقرير للأمم المتحدة في مطلع العام «إن نحو 4.8 مليون طفل تأثروا بالنزاع الدائر في البلاد، وهو يعادل 80% من مجموع الأطفال السوريين»، وأقرت اليونيسيف بمطلع الشهر الثالث من هذا العام «أن نحو 7.3 مليون طفل ولدوا منذ بدء النزاع، منهم بحدود 151 ألف ولدوا كلاجئين»، كما لم تتم أية دراسة إحصائية عامة حتى الآن عن واقع عمالة الأطفال وتداعياتها، لا من الجهات الرسمية السورية ولا من المنظمات الدولية، علماً أن هؤلاء الأطفال لا ذنب لهم فيما جرى ويجري كله، سوى أنهم باتوا يحملون هموماً أكبر من أعمارهم، ويدفعون ضريبة العوز والحاجة التي أحد أسبابها الأساسية المباشرة، بالإضافة للحرب والأزمة وتداعياتها، هي تلك السياسات الاقتصادية التي أفقرت المواطن وشجعت المستغلين والناهبين، وهذا ما يجب العمل على تعديله وتغييره بكل جدية من أجل سورية المستقبل، وإلا فإن غدنا سيكون في مهب الريح.