«إكليل الدم» لزيناتي قدسية.. العنف داخل العنف
لم يغادر المسرحي الفلسطيني زيناتي قدسية دمشق ولم يبرح مسارحها؛ بل ظل مصراً على مغامرته الفنية التي بدأها ثمانينيات القرن الفائت بمشروع المونودراما مع الراحل ممدوح عدوان؛
وها هو اليوم يوقّع على عمله الجديد بعنوان «إكليل الدم» (مسرح الحمراء 3-15 أيلول)، منتصراً مرةً أخرى للمسرح التجريبي الذي كان من أبرز نجومه؛ لكنه هذه المرة يأخذ جمهور عروض المسرح القومي إلى لعبة المسرح داخل المسرح مستعيراً لعبة الإيطالي لويجي بيرانديلو؛ وذلك عبر توليفة نصية كتبها «قدسية» عن سياسة جزّ الرؤوس التي صارت ثقافة نهائية للعنف المتبادل الذي تشهده كل من بغداد ودمشق؛ حيث يستغني صاحب «القيامة» عن حكاية واضحة المعالم في مسرحيته الغاضبة، تاركاً مساحة الخشبة لثمانية ممثلين وراقصين شاركهم زيناتي بها عبر شخصية أقرب إلى بطل مونودراما شعرية تمر على المسرح كنقيض للفوضى والخوف والرهبة التي تعيشها شخصياته؛ ليأتلف مشهد الذبح مع موسيقا «الراب» و«الهارد ميتاليكا»، جنباً إلى جنب مع النبرة الصوفية لشخصية الكاهن الشاعر الذي قام «قدسية» بأدائها بزي مغاير لأزياء ممثليه الذين نراهم في ثياب رثة ومعاصرة، ملتجئين من سكين الذبح العمومي بدواليب وخردة وبقايا فزاعات انتصبت في يسار الخشبة ويمينها ووسطها، في مقترح قدمه الفنان زهير العربي للديكور، وبتناغم إضاءة صممها الفنان بسام حميدي ونصر سفر، تراوحت بين الرمادي والأصفر المغبرّ؛ وصولاً إلى مناخ قدم الفضاء المسرحي ككابوس لا تلمع فيه إلا صرخات بشر أكلها الهلع والريب والتشتت ورقابها تحت أنصالٍ متعددة!
«إكليل الدم» يبدو تتمة للعروض السورية التي أنتجتها وزارة الثقافة السورية في سنوات الحرب؛ حيث يتكرر اسم الدم وصفاته في عناوين الأعمال المسرحية؛ فمن «عرش الدم» (2012)، العرض الذي قدمه غسان مسعود على مسرح الأوبرا، عن نصوص لشكسبير؛ إلى «عرس الدم» للإسباني فيديركو غارسيا لوركا؛ العرض الذي اشتغل عليه المسرحيون السوريون لسنوات وبإمضاء أكثر من مخرج في استشراف مباشر لمستقبل البلاد التي غرقت في دمائها وغاصت حتى الركب؛ فسنجد متلازمة القاتل والقتيل، الضحية والجلاد، السجين والسجان بكثرة لافتة؛ إلا أن «قدسية» يبرر ذلك بأنه يريد أن يصرخ ومن أعماق قلبه عما يحدث مؤخراً على يد الإرهاب الدولي المنظم وما تتناقله نشرات الأخبار اليومية من مشاهد صادمة وسريالية عن إعدامات ومقابر جماعية في كلٍ من العراق وسورية. ساعة وربع الساعة زمن العرض المفتوح على مسرح القسوة، فمن خلال «المسرح داخل المسرح» يطل «إكليل الدم» على «العنف داخل العنف» أكثر فأكثر؛ متكئاً على أرشيف هائل من ردود الفعل التي جعلت الخوف من الآخر وتخوينه أو تكفيره وجهاً آخر للتطرف والتعصب الأعمى؛ وذلك عبر مشاهد قاتمة تخللتها «نمرات» رقص باليه قدمها كل من مروى العيد وجمال تركماني على إيقاع أغنية لأم كلثوم، كترميز عن الحياة العربية المشتهاة في زمن صيحات «بالذبح جئناكم» التي تتصادى أناشيدها في رؤوس شخصيات العرض؛ فتحيلها إلى نوعية عجيبة غريبة من كائنات بشرية خائفة ومنزوية وعزلاء في عراء تام التكوين.
يمكن التقاط الكثير من الإسقاطات في «إكليل الدم» لكنه عرض غلبت عليه سوداوية واضحة عكست بقوة تشاؤماً إنسانياً عميقاً؛ أما على صعيد السوية الفنية فلم ينجح الممثلون بالإفلات من سطوة شخصية مخرج العرض وكاتبه؛ لا سيما الأداء الصوتي والجسدي الذي اشتهر به «قدسية»؛ فكان الجمهور أمام مونولوجات متجاورة لعشر شخصيات مشوشة تبحث عن مؤلف.
المصدر: السفير