نادين غورديمير.. رحلة الأدب ورحلة الالتزام
إسكندر حبش إسكندر حبش

نادين غورديمير.. رحلة الأدب ورحلة الالتزام

لا بدّ لمن يقرأ روايات الكاتبة الجنوب ـ افريقية نادين غورديمير (التي رحلت يوم الأحد الماضي) أن يطرح على نفسه السؤال التالي: «من أين تأتي الكتابة»؟ ولا بدّ أيضاً من أن يجد جواباً من مثل: «من هذه الطفولة الخاصة والمميّزة».

بمعنى آخر من هذا المكان «البورجوازي الصغير» الذي ولدت فيه (في 23 تشرين الثاني من العام 1923) في مدينة «سبرينغز»، وهي مدينة مليئة بالمناجم تقع في ضواحي «جوهانسبورغ»، كان النشاط الثقافي الوحيد المسموح به للفتيات تعلّم البيانو. أما في ما يخص الوعي في قضية السود فلم يكن الأمر موجوداً في الأساس: «كنت غائبة عنهم»، على قولها في إحدى المقابلات الصحافية. ومع ذلك جاءت حادثة لتقلب حياة هذه المراهقة ولتدخلها «في قلب وحدة بلدها». فذات ليلة، «اغتصبت» الشرطة فضاء حديقة المنزل العائلي الخاص، لتفتش المكان الذي كان ينام فيه الخدم السود، بحثاً عن زجاجة كحول ممنوعة، لترحل مجدداً بعد أن دمرت كل شيء في طريقها. صمتُ الوالدين إزاء تصرفات الشرطة بدا بنظر المراهقة كأنه رضى ضمني بالموافقة على ذلك: «بعد هذه الحادثة بدأت بوعي ما كان يحدث حقاً في هذه البلاد». هذه هي الحادثة الكبرى التي قادت نادين غورديمير إلى الوعي كما إلى الكتابة، لتكون كتابتها كفعل سياسي، إذ تجد أن الكاتب لا يعيش أبداً في عزلة عن مجتمعه.

منذ أن كانت في التاسعة من عمرها، فُتنت غورديمير بالكتابة، لذلك تخلّت عن حلمها في أن تكون راقصة باليه لتنهمك في الكتابة مطبقة حرفياً مبدأ ألبير كامو (التي كانت تكن له الإعجاب)، حين نادى «بالشجاعة في الحياة وبالموهبة في العمل الفني» أي لتجد حلا على طريقتها الخاصة لمسألة انخراط الكاتب في المجتمع. كانت في السادسة والعشرين من عمرها حين صدرت في العام 1949 مجموعتها القصصية الأولى بعنوان «وجهاً لوجه».

لم يكن لغورديمير في تلك الفترة لا آلهة ولا «دوغما»، كانت تعيش داخل العديد من الشكوك كما داخل يقين واحد راسخ: التمييز العنصري جريمة كبرى لا يستطيع أحد أن يدافع عنها. في روايتها الأولى «عالم من الغرباء» التي صدرت في انكلترا العام 1958، وبقيت ممنوعة في جنوب أفريقيا لمدة 12 عاماً، كانت أيضاً تحب أن تردد أنها «أفريقية بيضاء البشرة وليست بيضاء من جنوب أفريقيا»، كذلك تعترف بأنها لم تملك الشجاعة يوماً في أن تكون «ثورية بالكامل»، وأن كانت تزرع «الأنانية الضرورية واللازمة للكتابة». إنها قريبة من المؤتمر الوطني الأفريقي بقيادة نيلسون مانديلا، أما التزامها الذي أسهم في كثير من الأحيان بإبراز وجهها كمناضلة مما خنق صورتها ككاتبة فيبقى قبل أي شيء، التزاماً كتابياً. لم تكتب يوماً منشورات أو نصوصاً دعائية، لذلك كانت تقيم دائماً حداً فاصلاً وأساسياً ما بين نشاطها «كمواطنة» وما بين عملها الأدبي. من هنا لم يتأثر إبداعها أبدا بنهاية حقبة سياسة التمييز العنصري، بخلاف دوريس ليسينغ مثلا التي انتهى بها الأمر منذ زمن باختيار المنفى الانكليزي. إزاء ذلك كلّه، لم تختلف كثيراً كتابات غورديمير الأخيرة من حيث جوهرها عن كتابات الفترة الأولى. وإن كان القارئ يشعر بوضوح بهذا التطور الذي أصابها وكأنه تطور رافق ما شهدته بلادها في رحلتها مع الزمن. الدليل على ذلك، الكتابان الصادران عام 2003: «فحيح الأفعى الهادئ» (مجموعة قصصية تضم عدداً مختاراً من قصصها) ورواية «عاشق ثري».

 

رؤية مانوية

في هذين الكتابين نعود لنجد نفس التساؤلات والقضايا التي تطرحها عملية الكتابة عندها وبشكل دائم: البعد الميتافيزيقي، الكراهية، النفور، مكانة الشر في المجتمعات، مع اختلاف وحيد ربما: فبدلا من هذا الضغط الذي كان يجبر الكتّاب في عصر التمييز العنصري على إنتاج رؤية «مانوية» في أعمالهم، بدأنا نجد هامشا أكثر انفتاحا أفضى إلى قصص أكثر حميمية وأكثر شخصية، وهي قصص تزدهر، بحرية، أكثر فأكثر، في ما يكتب اليوم من أدب في تلك البلاد. ولهذا الأمر فضيلة ما، إذ ربما كان يسمح للصحافيين أكثر من ذي قبل بأن يطالبوا غورديمير بأن تتحدث عن خياراتها الأدبية أكثر من أن تتحدث عن مواقفها السياسية.

بخلاف أندريه برينك وج.م. كويتزي وبرايتن برايتنباخ الذين ينحدرون من الغالبية الأفريقانية نجد أن غورديمير قد ولدت من أب ليتواني ومن أم انكليزية، وهي تنتمي إلى الغالبية الأنغلو ـ ساكسونية. ولهذا الأمر الدور الأساسي في أدبها. إذ نجد دائماً أن مسألة الأقليات حاضرة جداً في كتبها وأدبها. وهذا ما صاغته بشكل مدهش في روايتها «السلاح المنزلي»، التي تحدثت فيها عن مصير قاتل أبيض وجد نفسه بين يدي محام أسود «غريب جاء من الجهة الأخرى لهذا البلد الممزق». كذلك أيضاً نجد الفكرة ذاتها في كتاب «فرصة للحب»، إذ تتحدث الكاتبة عن امرأة بيضاء أقامت علاقة مع رجل أسود. في «الحركة الأساسية»، تستدعي غورديمير المسار المتمرد لامرأة، في بلاد التمييز العنصري، «كان دليلها فيها، كتب كافكا وليس كتب ماركس». من هنا إن توجَّب علينا أن نجد كلمة واحدة لإنصاف هذه السيدة لاخترنا كلمة «المتمردة».

في «عاشق ثري»، تتحدث غورديمير عن جولي، البيضاء، وهي ابنة متمردة لرجل نافذ غني، تحب عبدو، الميكانيكي المسلم، وبعد أن يوشى بها، تطرد من منزلها فتلحق به إلى قريته «العربية» الواقعة في قلب الصحراء، لتكتشف هناك أن عائلته ترفض وجود هذه «الغريبة» بينها. لاشيء في البداية كان يجمع بين بطلي الكتاب، فجولي البيضاء تحاول جاهدة أن تهرب من هذا المصير الاجتماعي الذي كان مرسوماً لها، بينما عبدو، المهاجر ذو الوضع غير القانوني، كان واقعاً تحت تهديد دائرة الهجرة كما تحت تهديد «هذه الأفعال التي تقرر حياة البشر ومصائرهم». الشخصية الأولى ترغب في التخلص من هويتها بينما الأخرى تحاول أن تحصل على واحدة لها. من هنا، يستطيع القارئ أن يتكهن بكل هذه العقبات التي كانت تعترض هذا الشغف المتفرد حيث «كل فكرة تلوي هذا التناغم الداخلي لكل واحد وتجعله في غير مكانه».

عديدة هي نقاط الاستدلال التي تتأرجح عبرها هذه الرواية، فمن جهة نجدها تغور في الأعماق لتستكشف هذه الحدود الضيقة ما بين المرئي واللامرئي، ما بين العام والخاص، ما بين العواطف الحميمة واضطرابات مجتمع مريض من ماضيه. كل ذلك يأتي بمثابة «سوناتة» لبقة حيث تتناغم في طياتها كل تناقضات وطنها وإبهاماته.

 

كتّاب تخطوا

غالباً ما كانت تحب غورديمير أن تستعيد قول غوته: «أينما عشتم وفي أي عصر كان ذلك، إن حفرتم عميقاً في التراب، لوجدتم القليل من الحقيقة العائدة لهذه الحقبة». قبل خمسين سنة من ذلك نجد أن الكاتب الذي كتب «فحيح الأفعى الهادئ» و«عاشق عابر» لا يزال على حاله، إنها الكتابة ذاتها بكل ما تحمله من قوة، إنها الطريقة عينها في رواية القصص المتجذرة في المعركة نفسها، نجد الرؤية ذاتها للتاريخ، مفهوم الحياة عينه. ودائماً، نقع على هذه المخيلة الخصبة التي من دونها لما استطعنا الوصول إلى هذا الوعي الحاد بالأشياء، كذلك هذه العلاقة الخصبة بين الأشخاص والشخصيات، إذ ماذا يفعل الكاتب في النتيجة سوى لقاء أناس يمارسون سحرهم عليه ليكتب حكاياهم وحيواتهم المتعاقبة في كتبه؟

في «الكتابة والوجود» وهو عبارة عن مجموعة من الأبحاث المهمة، تدرس غورديمير أعمال بعض الكتّاب «الذين قرروا أن يذهبوا إلى البعيد». من هؤلاء الكتاب، تذكر أسماء عاموس عوز، تشينوا أتشيبي، نجيب محفوظ. لقد ذهب هؤلاء الثلاثة، كما تقول، إلى مكان بعيد جداً، يتخطى كل القواعد المعتادة تجاه الأنظمة والقوانين السياسية لبلادهم التي «نقبوا أرضها بأقدامهم الحافية، بجلد جلودهم». ربما لم تفعل غورديمير شيئاً سوى محاولة أن تكون في خطى هؤلاء. ربما لأنها تتذكر جيداً نصيحة مارسيل بروست الذي قال: «لا تخشوا أن تذهبوا إلى البعيد لأن الحقيقة موجودة في الماوراء». كان همنغواي قد أهدى جائزة نوبل إلى أصدقائه الكوبيين، أما غورديمير فقد وجدت أنها جائزة لجنوب أفريقيا بأسرها. بعض الأفارقة يطلقون عليها لقب «ماغوغو» (والدتنا) ويرون فيها نوعاً من «أم» مؤسسة لجنوب أفريقيا الجديدة. دور لا ترفضه. إنها كاتبة ملتزمة، «وجودية» وتناضل اليوم كي تنشر أعمال الكتاب السود بلغتهم ولكي يتم إنشاء مكتبات في بلاد تفتقر إلى ذلك. إنها معركة نادين غورديمير الجديدة: مصاحبة اختلاجات مجتمع ساهمت كثيرا في تغييره وتبديله: «لا نستطيع أبداً الحديث عن أدب جنوب أفريقي جديد إلا إذا نُشرت أعمال هؤلاء الشبان بلغة الزولو او بالتساوانا او بالسوتو او بالكزوسا».

صحيح أن نظام التمييز العنصري قد سقط، لكن الكاتبة أو هذه «الأم الشجاعة» لم تسقط رايتها، إذ تابعت حملاتها ونضالاتها من أجل السلام ومن اجل نزع التسلح ومن أجل استئصال الرهاب. صحيح أن «الشياطين القديمة» قد طردت من الساحات العامة، لكنها ما زالت تجول في الكواليس، على الأقل في ذهن أولئك الذين لم يقبلوا بعد «صعود السود». لذلك كله، بقيت غورديمير كحارس المنارة الذي يراقب الأفق. وفي مراقبتها هذه سجلت العديد من المطبات الجديدة كما العديد من الآمال الجديدة، تقول: «ثمة منجم من الموضوعات الجديدة التي ظهرت، فعلى سبيل المثال، لا بد من أن نطرح السؤال عن كيفية بناء البورجوازية السوداء لنفسها، ما هو موقف البيض وهم يشاهدون الأطباء والمحامين السود وكيف يتعلم الناس أن يعيش بعضهم مع بعض». وتضيف: «إن السياق السياسي الجديد لا بد من أن يؤثر في شخصيات رواياتي. بيد أن أرواحهم ولحمهم وأسرارهم لا تقتصر أبداً على هذه المعطيات فقط حتى وإن كانت مشجعة إلى هذا الحد. لا يمكن للكاتب أن يكون مفيداً إلا من خلال تخطيه للواقع الاجتماعي الاقتصادي. إن مهمته تكمن أولا وأخيراً في التعبير عن الحقائق الخبيئة».

 

المصدر: السفير