ليست مجرد أعياد
إيمان الذياب إيمان الذياب

ليست مجرد أعياد

في عالم يضج بأزماته، وجدنا أنفسنا فجأة أمام أسئلة مصيرية، أسئلة تجعلنا نعيد التفكير حول مصيرنا الراهن قبل مستقبلنا. في زمن تتسارع فيه الأحداث وتتكثف لدرجة نشعر فيها أننا عاجزون عن إمساكها واللحاق بها، تمر مئات الأسئلة والمقارنات التي نحاول أن نجد فيها خيطاً صغيراً لنمسكه ويكون دليلنا إلى المستقبل. نعود إلى إرثنا وتاريخنا وتراثنا لنقرأه ولنكتشف بين ثناياه بعض الإشارات التي يمكن أن تساعدنا في الإجابة عمّا يطرحه هذا العالم علينا.

غالباً ما يعتمد الإعلام، أسلوب التوصيف في الحديث عن الأعياد المختلفة والمتنوعة الخاصة بشعوب الشرق، كعيد النوروز وعيد أكيتو وغيرها، فيجري توصيفها بصورة نمطية تركز على مظاهر العيد الخارجية والجماليات المرافقة للطقوس المختلفة دون محاولة الغوص عميقاً في معاني هذه التقاليد عند الشعوب المعنية ومعرفة البعد الدلالي الكامن فيها وأسباب استمرارها. وهذا مفهوم من جهة أن الإعلام محكوم بما تسمح له السلطة القائمة ويعبر عن رؤيتها. وغالبية شعوب الشرق محكومة إما من سلطات مستعمرة مباشرة أو سلطات محلية تابعة للاستعمار (الغربي) من جهة، ومحكومة بالإرث التاريخي الذي خلفه الاستعمار في نظرته إلى هذه الشعوب والمتمحورة حول «المركزية الغربية للعالم» من جهة أخرى، إضافة إلى اعتبارات أخرى مثل من يملك ويمول وسائل الإعلام العالمية المختلفة والتي بدورها تحاول السيطرة والتأثير على وسائل الإعلام المحلية في الدول المعنية...إلخ مما يؤكد درجة تعقيد المسألة.

بين بعدين تاريخي واجتماعي

ثمة ضرورة لدراسة الظواهر الاجتماعية القادمة من التاريخ كالطقوس والأعياد وغيرها في سياقها وبعدها الاجتماعي وليس التاريخي فقط، وتتبعها في «حلها وترحالها»، وما طرأ ويطرأ عليها من تحوّلات اجتماعية ودلالية تحمل معاني عميقة ومختلفة يفرضها الواقع بكل ما فيه من الجغرافية إلى الأوضاع السياسية والاقتصادية، وتتبع ما هو خفي كامن خلف ما هو جلي ظاهر بما يسمح بفهم الأنسجة التي توجد بعيداً في ثنايا البنى الاجتماعية ليس بغرض المعرفة البحتة فقط، أو معرفة «رموزها وعلاماتها» فقط، بل لمعرفة ما فيها من أنظمة وبنى كانت وليدة أوضاعها وظروفها وخصوصيتها في تآلفها وارتباطها وعلاقاتها الغنية والمتشابكة، معرفة تشرع لرؤية منهجية تسمح بفهم مناطق التقاطع بين هذه الشعوب والاستفادة منها لإعادة بناء علاقاتها ليس وفق ما يمليه الآخرون عليها وإنما وفق ما تمليه مصالحها.

«ولادة العالم من جديد»

تحتفي كثير من شعوب الشرق بـ«ولادة العالم من جديد»، وتوافق أعياد الربيع تلك فترة الاعتدال الربيعي، الذي يعتبر البداية الحقيقية لدورة الحياة الطبيعية على الأرض، إذ تبدأ الطبيعة بالتجدد والانبعاث، تتشارك أعياد الربيع هذه على اختلاف مسمياتها «النوروز، شم النسيم، واكيتو...إلخ» بالكثير، منها «المعنى العميق الكامن» فيها، بداية في تسمية العيد والأمثلة كثيرة منها، «نوروز»، كلمة مركّبة تتألّف من «نو» و«روز» ومعناها «يوم جديد»، بينما تعني كلمة «أكيتو»، حسب عدة باحثين «البداية» أو «العتبة»... إلخ. وما يحمله المعنى كعلامة على «التقويم» المشترك وبدء السنة الجديدة، إضافة إلى التوقيت كعلامة على «الإنتاج» والمتمثل بطقوس الخصب والزراعة.
تحمل القصص والأساطير المرتبطة بأعياد الربيع أبعاداً متنوعة وغنية تظهر تجلياتها في كثير من يوميات شعوب الشرق. يؤكد عالم النفس «كارل يونغ» أن الأساطير تعبير رمزي لما سمّاه باللاشعور الجمعي أو الجماعي لدى الأمة. وتمثل الأداة الأقدم للتفكير الإنساني المبدع والوعاء الذي وضع فيه الإنسان خلاصة فكره، والوسيلة التي عبر بها عن الأنشطة المختلفة التي مارسها بما فيها النشاط السياسي والديني والاقتصادي، وحاول عن طريقها أن يُفلسف حقائق الحياة العادية لإضفاء طابع فكري على تجربته. لذلك كرّست الأعياد والاحتفالات بعداً وظيفياً زاخراً بالدلالة. فمثلاً يجسد احتفال النوروز بطقوسه الرمزية من إشعال النار وغيرها، ذكرى الثورة على الظلم، يوم قاد «كاوه الحداد» ثـورة على الملك «ضحاك» مع مجموعة من الشبان الثائرين.

نيان والملك الضحاك

تتشابه هذه الحكاية وتتداخل مع حكاية شعبية أخرى قادمة، هذه المرة، من الصين. حيث كان هناك مخلوق متعطش للدماء يدعى «نيان»- وهذه الكلمة في اللغة الصينية الحالية تعني عام- وكان يهاجم القرى في كل عام جديد. ومن أجل إخافة هذا الوحش النهم، لجأ القرويون إلى تزيين منازلهم بزخارف حمراء، وحرق عصي الخيزران وإصدار أصوات عالية، وتكللت الحيلة بالنجاح، في النهاية، وأصبحت الألوان والأضواء الزاهية التي أخافت نيان جزءاً من هذا الاحتفال. وما زال الصينيون حتى يومنا هذا يحتفلون بعيد رأس السنة القمرية، أو رأس السنة الصينية الجديدة، وكانت بواكير هذا العيد مقتصرة على الاحتفال ببداية موسم الزراعة الربيعية الجديد، لكنه تداخل فيما بعد مع الحكاية السابقة، ويختلف عن أعياد بلاد الرافدين في التوقيت نظراً لاعتماد رأس السنة القمرية على التقويم القمري الذي يعود تاريخه إلى الألفية الثانية قبل الميلاد، لذلك يصادف عادة أواخر كانون الثاني أو أوائل شباط، في ثاني قمر جديد بعد الانقلاب الشتوي.

إعادة إنتاج المعنى

يؤكد «مالينوفسكي» أن الأسطورة «ليست تعبيراً تافهاً ولا خيالات عقيمة، بل هي قوى ثقافية لها صورة محكمة». ومن هنا تأتي أهمية العلامات والرموز فيها. تمتلك العلامة والرمز سلطة خاصة تؤثر في البنى الاجتماعية فهي تكثيف لفكرة، تخترقنا وتؤثّر فينا وتوجّهنا وهي تفعل ذلك بطريقة ناعمة فلا ننتبه إلى خطورتها، بل إنّها قد تغيّر أمزجتنا وأذواقنا وحتّى مواقفنا.
يمكن لهذه العلامات التي يزخر بها تراث الشرق أن تساهم في إعادة إنتاج المعنى، معنى وجودنا اللاحق. فإعادة قراءتها وفهمها بشكل عميق يمكن له فعلاً أن يساهم في توحيد الناس، توحيد رؤيتهم، وبناء علاقات اجتماعية متماسكة، ليس في بلد واحد بل على امتداد هذا الشرق العظيم. ثمة ضرورة وظيفية وحاجة لموهبة الجماعة البشرية ليس فقط في أن تحكي قصصاً ذات مغزى وبشكل لا واعٍ حسب ما يؤكد تيليارد، بل استنتاج مفاهيم وطرق وحتى مفردات لربط الأفكار بعضها ببعض، في عالم يميل إلى التشظي والتفكك.
ثمة ضرورة وحاجة إلى ورشات تفكير جماعية، فعالم اليوم في حالة مخاض، في حالة جيشان غير مسبوقة، ومتابعة هذا ليس بالأمر اليسير. من هنا تأتي أهمية معاينة مظاهره المختلفة وطرح الأسئلة الصحيحة في الحد الأدنى للوصول إلى إجابات صحيحة، والسؤال الصحيح يفترض أن ينطلق من واقعنا ومن تجربتنا الخاصة وتراثنا وإرثنا وتاريخنا كجزء من شعوب الشرق.
عديدة هي الأسئلة التي تحتاج إلى أجوبة لا يمكن تأجيلها ولا يمكن لغيرنا أن يجيب عليها، ليس فقط لأنها تخصنا وحدنا، وليس بسبب فشل كل محاولات الإجابة عنها جراء اختطاف الفرصة من آخرين، مستعمرين ومستشرقين وو... إلخ، ومحاولات فرض إجاباتهم بدلاً عنا، بل بسبب الضرورة التاريخية التي تفرض نفسها اليوم على العالم وعلى وجودنا كله، والتي تقتضي إيجاد أجوبة صحيحة في عالم مضطرب يفتش عن توازنه.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1220