عن «الشيوعية المبكرة» وتموضعها الفاشي البربري

عن «الشيوعية المبكرة» وتموضعها الفاشي البربري

يمكن المرور سريعاً على مقولات خط موجود ولا يمكن نكرانه على الرغم من خفوت حضوره (المتبلور) مؤخراً، ليس فقط لفهم تخوم الصراع الأيديولوجي بل ولتطوير الموقع النظري-الفكري الخاص بقوى التغيير العميق-الجذري ودعمه. وهذه المقولات وهذا الخط هو ما يعلن عن نفسه بأنه الخط «الماركسي المبدئي»، علماً أنه يجترّ المفاهيم ويعيد ترتيبها وفقاً لتطوّرات المشهد من الموقع الجامد المنقلِب إلى العدائية وموقع العدو التاريخي للإنسانية.

ما المقصود بالخط الذي خفت؟

عندما نتكلّم عن الخط الذي يلبس وجه الفكر الماركسي نجد صعوبة في تلمّسه مؤخَّراً، ليس لأنه لم يعد موجوداً في فضاء الإعلام والكتابة، بل لأنّه اندمج بالخط الفكري المهيمن عالمياً، أي بالموقف الفاشي للنخبة الغربية (وكل منظومتها وحاشيتها) التي تعمل على التدمير نتيجةَ غياب أيّ هامش تاريخي لمناورتها. وهذا الاندماج ليس جديداً حصوله في التاريخ في مراحل الوضوح والحاجة للتموضع السياسي، ولكنه اليوم ينبع أيضاً من قاعدة تاريخية هي اندماج التناقضات، وبشكل أدق، اندماج مستويات الواقع نفسه مما يفرض اندماج مختلف مستويات البنية الفوقية نفسها، وضمناً مستوى الوعي والفكر على مختلف أشكاله. فنظرة سريعة على المقولات (الحقوقية) و(الأخلاقية) و(السياسية) و(الفنية) و(العلمية) و(الفلسفية)...إلخ، كلها تشير إلى اندماجها وتمحورها الصريح حول قيم (التدمير والتفتيت واللاإنسانية والتسليع والتشييء والعدم...)، كتعبير عن هوية (المشروع البربري) للنخبة التي تعمل على إطالة هيمنتها. هذا الاندماج يفرض اندماجاً في الخطوط السياسية مهما اختلفت في الهوية التي تعلنها فتصير كلها تياراً فاشياً عالمياً في (يسارها ويمينها). من هنا خفوتها كونها اندمجت في الخط المهيمن وكونها تخدّمه، لا لأنها (انهزمت). حسناً، هي انهزمت عندما صارت تتكلم لغة الخط المهيمن ومفاهيمه.

المقولات «المبدئية الماركسية» وتخديمها الخطَّ المهيمن

إنّ قراءة سريعة للمقولات التي تشكّل الموقف (الماركسي-اليسار المبدئي) (الجامد) الذي صار يصبّ في صالح الخط المهيمن الفاشي، تسمح باستخلاص مقولات مركزية. هذه المقولات المركزية (يُصادِف) أنّها هي نفسها الظواهر التي تشكل اليوم تخوم الصراع ضمن مشروع التدمير الغربي بالتحديد. ومنها مثلاً: (كيف للماركسي أن يقدِّسَ الدولة كجهاز قمعي؟!)، أو (كيف للماركسي أن يقدِّسَ العائلة؟!) أو (كيف للماركسيّ أن يقدِّسَ الجيوش؟!) وغيرها. ليس مصادفة أنْ تكون هذه المقولات هي التعبير المباشر عن غايات التدمير ضمن المشروع البربري للنخبة الفاشية. فهذا الخطّ، الذي يلبس وجه الفكر الماركسي، يُسِقطُ كلَّ هذا المشروع التدميري البربري من حسابه وبالتالي ينفي حصوله، وبالتالي (يحميه) عبر نكرانه وإخفاء وجوده. فهو مثلاً يعادي فكرة الدولة، أيّ دولة، ويعادي الانتظام، أيّ انتظام، ويعادي القانون، أيّ قانون، ويعادي التراث، أيّ تراث، إلخ. وفي عدائه لها كلها يسقط دورها التقدمي اليوم في كونها خطوط دفاع ضدّ المشروع التدميري البربري، ويسقط مع ذلك تموضعه وكل خطّه السياسي الصحيح.

ظواهر عالمية عن المقولات

قيل في مناسبات سابقة كيف تدافع الحياة عن نفسها، وبأيّ الأشكال يظهر ذلك، فالدفاع يظهر مثلاً من خلال الدفاع عن التراث، أو ما يسمى عالمياً (في الغرب خاصة) بتيار «حفظ النار» (حفظ الجوهر الحي من التاريخ والتراث والثقافة)، ويظهر بخط الدفاع عن العائلة (مثال: بعض دول شرق أوروبا في وجه برنامج الاتحاد الأوروبي لتثبيت قوانين الهويات الجنسية المتحوِّلة وغيرها)، ويظهر في (الانقلابات العسكرية) في أفريقيا في وجه الاستعمار الغربي، ويظهر في الحركة السياسية الفوقية للدول وتحالفها العالمي الصاعد في وجه الحروب والمجاعات، إلخ. وهذه الظواهر هي التعبير المباشر عن خطوط الجبهة مع المشروع التدميري البربري. فحرق كل انتظام وتفتيت كل جسم هو الغاية المطلوبة لاستمرار هيمنة النخبة الفاشية، المعادية للإنسانية، على العالم.
وإذا ما دمجنا هذا مع ضرب العمل السياسي والحزبي والنقابي خلال عقود الليبرالية، والفردانية التي سادت عالمياً، يظهر أنَّ هذه الخطوط الدفاعية هي التي وقفت حائلاً أمام مشروع التدمير البربري، خصوصاً إذا ما أضفنا إلى ذلك سلاح الدمار الشامل الجديد في يد النخبة الفاشية، ألا وهو (الجماهير). وهذه من أهم المقولات التي يعتمد عليها الخطُّ (اللابسُ وجهَ الفِكر الماركسيّ) في اتهامه للجميع (بعدم تقديسهم للجماهير) دون أيّ اعتبارٍ آخر لتنظيمها (التنظيم الإعلامي هو التنظيم الحديث الرئيسي للجماهير في يد النخبة المهيمنة، لا الأحزاب ولا التنظيمات التقليدية الباقية) وبرنامجها. على ماذا يعتمد إذاً هذا الخط (اللابسُ وجهَ الفِكر الماركسيّ؟) الذي اندمج في الخط المهيمِن الفاشيّ في مشروعه؟ إنّه فاقدٌ لأيّ أداة واقعية موجودة، ويعيش في (مثالية فلسفية) مفرطة خارج كل معطى مادي تاريخي.

عن «الشيوعية المبكرة»

حتى لا نطيل في الاستشهاد بظواهر سياسية إن كان في المقولات أو في الممارسات السياسية لهذا الخط وكيف يعمل اليوم خادماً للخط الفاشي البربري، ما يهمّنا هو تصفية الحساب النظري معه. وتصفية الحساب معه قام بها بنفسه، عندما سلَّمَ القيادةَ الفكرية والسياسية للمشروع البربري الفاشي. فحدّة الصراع التاريخي اليوم واندماج الظواهر ومستويات الصراع والتناقضات بعضُها في بعض، وكذلك اقتراب جوهر الواقع من شكله، أي اقتراب المفهوم النظري من الواقع التاريخي الملموس، كلّها سمحت بذوبان هذا الخط بالخط الفاشي البربري فصارا واحداً. ولكن يمكن القول إنّ العَتَهَ الفكريَّ لهذا الخطّ يكمن في اعتماده على الأهداف التاريخية لعصرِ ما بعد الاشتراكية (أيْ الشيوعيّة مهما يَكنْ شكلها المستقبليّ) في ممارسته الراهنة. فأهمل فكرةً جوهرية في الماركسية هي أنّ الصراع في الاشتراكية يشتدّ ولا يخفت. وهو يريد الوصولَ مثلاً إلى مجتمع اللّا دولة واللَّا جيش، في عصر الإمبريالية المأزومة ومشروعها التدميري. هو يعيش مقولات الشيوعية في مرحلةٍ ينكر فيها هو نفسه وجود (قوى اشتراكية)، وهذا نفسه أساساً غير صحيح إذا ما اعتبرنا أن المرحلة الراهنة في بنيتها هي تركة وإرث المحرّك الاشتراكي للتاريخ وتحويله للنقائض. هذه الملاحظة عن كونه يعيش (شيوعية مبكرة) لا ينفي مهزلة هذا الخط وتموضعه التدميريّ، بل يؤكّدها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1164