غدًا تأتي الغيمة وتبلل الوعي المعطوب
عدد لا نهائي من الظواهر داخل ظاهرة واحدة فقط، اتفق العلم على تسميتها بالأرض، وكان العلماء في مرحلة الإقطاعية مختلفين حول طبيعة شكلها، وحركتها. وبحكم أن الأرض والفلك هما الحجر الأساسي للنظم المعرفية عند السلطة الإقطاعية، فإن المصير كان إما المقصلة، أو السجن، أو النفي للعلماء، والفنانين الذين تجرؤوا على مناهضة مرجعية مؤسسات السلطة، ولاحقًا عندما بدأت تتحرك الرأسمالية، للخروج من رحم الإقطاعية، اشتدت أكثر من ذي قبل المعارك المعرفية حول تفسير نظم الأرض والفلك، وخير دليل لمعايشة تلك المرحلة، هو الأدب، فإن مشاهدة، أو قراءة مسرحية «حياة غاليليه» للكاتب برتولد بريخت، ستكون كفيلة في أن تدفعنا للعيش بداخل نموذج اجتماعي يعبر عن تناقضات تلك المرحلة، فهي مسرحية ملحمية عن حياة العالم غاليليو غاليلي وصراعه مع مؤسسات وأجهزة السلطة في فلورنسا في بدايات القرن السابع عشر.
طبقة تعيش بذاتها
كان نمو الرأسمالية يتوقف على انتصارها معرفيًا، بعدما قطعت التراكم المادي الأولي، وعند هذا الحد اقتضت الضرورة بدفع سيرورة حركة التطور نحو قفزة ثورية، فأصبحَ هناك مصانع بآلات تنتج بضائع عوضًا عن ورش العمل الصغيرة البدائية بقدرتها الإنتاجية، ما يعني أن النظام الإقطاعي بدأ يتفسخ أمام الحركة المادية، والمعرفية للرأسمالية، واستمرت تلك الأخيرة بتطوير العلوم والمعارف، لأجل أن تستغلها في التوسع الأفقي لدورة الإنتاج. وما بين الدور التقدمي الذي لعبته طبقة البرجوازية في بداياتها، والثورة المضادة للإقطاعية، ظهر الفكر الاشتراكي، كبديل عنهما، وكانت مشكلته أنه يقبع تحتهما، كونه فكرًا طوباويًا يستحيل عليه أن يمهد الطريق أمام ثورة جذرية شاملة تفضي إلى نظام جديد يختلف جوهريًا عن النظامين المتصارعين، (الإقطاعية - الرأسمالية). وأثناء ذلك تجلت فلسفلة الديالكتيك، وكانت علتها أنها مثالية، غير مرتبطة عضويًا بالحركة المادية، وبناءً على هذا الوضع، نشأت طبقة البروليتارية -الطبقة العاملة بأجر- من دون عقيدة فكرية تنير لها طريقها الجديد، ما يعني أنها كانت طبقة بذاتها، ولا تعي مصالحها، ومن السهل تفريقها، واستغلالها للحد الأقصى. وكما ذكرنا في أعلاه أن الأدب خير دليل للمعايشة، فإن مشاهدة أو قراءة مسرحية «النساجون» للكاتب جيرهارت هاوبتمان، ستأخذنا إلى عوالم تلك المرحلة، فهي مسرحية ذات هدف سياسي محتواه اجتماعي. تعالج الثورة الفاشلة لعمال النسيج في منطقة سيليسيا عام 1844.
طبقة تعمل لأجل ذاتها
عند هذا المفصل التاريخي ظهرت الشيوعية العلمية على ساحة التاريخ، فأخذ كلاً من كارل ماركس وفريدريك أنجلس على عاتقهما مهمة تفسير العالم، لأجل تغييره، وعليه ظهرت عقيدة متجددة بمعارفها تنير درب طبقة البروليتارية، والفئات المنهوبة الأخرى في المجتمع، ما يعني القدرة الفعلية، لتحويل الإمكانيات إلى واقع جديد، فأكمل البروليتاريون، وسائر الكادحين، والطليعيين الثوريين في العالم تطوير العقيدة الشيوعية، وتنظيم حركتهم السياسية، وعليه تبين أن الحجر الأساسي للنظم المعرفية لدى الرأسمالية، ليس كما كانت عليه عند الإقطاعية، أي أنها تتمحور حول الأرض والفلك فقط، إنما حملت الرأسمالية معها نظماً أشد تعقيدًا، ألا وهي تفسير وعي الإنسان، وأيضًا كونية الحركة ، فأصبحَ إخضاع حركة الوعي، والكون، خاصة تتفرد بها الرأسمالية عن التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية السابقة، العبودية - الإقطاعية. وظهرت الحاجة المعرفية، للتفريق بين القمع الناعم والخشن. وهنا تجدر الإشارة لأهمية قراءة كتاب التلاعب بالوعي، للعالم سيرجي قره مورزا، لما يحمله من قيمة مضافة للفكر التقدمي.
المعجزة الكبرى
إن الرأسمالية كانت ولا زالت تهمش وتستغل الثقافة الشعبية النابضة من حسها السليم، وأيضًا الحقائق العلمية الثورية في حقل المجتمع، وأي نتاج فني ثوري يعبر بعمق عن محتوى العلاقات الاجتماعية - الاقتصادية، والنضالات السياسية. فإذا كانت نقطة التحول الأساسية في النظام الإقطاعي، تكمن حول عزوف سائر الكادحين، والعلماء، والفنانين، عن الثقافة والعلم والفن السائدين، ودخولهم لاحقًا في مواجهة ثورية ضد مؤسسات وأجهزة السلطة، من خلال تجديد الثقافة الشعبية، والنتاجات الفكرية، والفنية المتفاعلة مع الأرض والفلك، وعلاقة الإنسان ضمنهما خارج هيمنة أجهزة السلطة الإقطاعية، فإن النقطة التحول الأساسية عند الرأسمالية، تكمن في تكشف حقيقة ممارستها في تفكيك الوعي الفردي، والمجتمعي مرورًا بالعائلي. وعليه سخر الرأسماليين مراكز الأبحاث، والمختبرات، والدراسات، ليس لتفسير الأرض والكون فحسب، إنما أيضًا لتشريح بينة الوعي الفردي والعائلي والمجتمعي، كونهم أدركوا بشدة موطن المعجزة الكبرى على هذه الأرض. فكثيرة هي المعجزات في هذا العالم، لكن أكثرها إعجازًا هو الإنسان. هذا القول يرجع إلى الكاتب الإغريقي سوفوكليس (496 ق.م – 405 ق.م) المعروف بنصه التراجيدي أوديب ملكًا، والذي استوحى منه سيغموند فرويد ما أطلق عليه عقدة أوديب.
نعتقد أن المسألة المطروحة في هذا العصر الراهن مركبة ومتداخلة ومترابطة، ولا يمكن فصل عناصرها بعضهم عن بعض إطلاقًا، فإن تحقيق أعمق عدالة اجتماعية وأعلى درجة نمو للمجتمع عبر الأداة الثورية السياسية، لا يقل أهمية عن المعالجة الشاملة والجذرية لمشاكل الأرض الممزقة، والكون الملوث، والوعي المعطوب. وإن الثقافة الشعبية والعلم والفن، هي الأدوات الأساسية التي تستطيع تحقيق هذه المهمة الثورية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1141