كومنترن القرن الحادي والعشرين بين الواقع الطبقي للعولمة وتثوير الحركة السياسية
في كثير من المواد السابقة في قاسيون جرى استعراض جوانب من الاتجاه التاريخي العام الذي تسلكه التحولات الموضوعية (وتلك التي تحاول قوى العالم القديم تثبيتها عن وعي) في العالم، ونقصد تحديداً جانب تعطل العقل (بالمعنى الموضوعي نتيجة نمط الحياة الاستهلاكي المفرغ من المعنى والمستقبل، المهيمن عالمياً)، وما يلاقي هذا التعطل من تدمير (عبر ممارسات أيديولوجية ثقافية يومية) تمارسه قوى العالم القديم. ولكن كيف نضع أمامنا مهمة سياسية-تنظيمية عملية نابعة مما سبق؟!
«بماذا يفيدنا ذلك؟!»
في مكان ما من سلسلة الكتب الصادرة سابقاً عن دار الطليعة الجديدة- سورية، حول ستالين، نجد موقفاً بين ستالين وأحد المتخصصين في الفلسفة الذي يحاول أن يعرض لستالين بعض تاريخ الفلسفة بالشكل الأكاديمي التعليمي، فيقول له ستالين بعقل عمليّ متوثب «بماذا يفيدني هذا عمليّاً؟!» ليس ذلك نبذاً من قبل ستالين لذلك العرض الفلسفي، بل هو دلالة على توظيف النظرية في حقل الممارسة السياسية المباشرة، ووضعها محك الممارسة التي وحدها توجه التحليل النظري وتكسبه قوته، تطوره، وتغنيه. ولهذا، من الضروري دائماً أن نستخلص من تحليل الاتجاه التاريخي العام حول التحولات النوعية الجديدة التي تصيب البنية الاجتماعية وما يعنيه ذلك من دلالات تخص الممارسة السياسية- التنظيمية. وعلى الرغم من أن الفكرة التي سنعيد الإضاءة عليها في هذه المادة جرى المرور عليها سابقاً، ولكن من الضروري المرور عليها مجدداً مع بعض الدعم من غرامشي الذي قد يغني جانباً من القضية.
تحول القوى الطبقية وانعكاسها
قلنا سابقاً إن الانحدار العام في مستوى الحياة اليومية من جهة، ومن جهة أخرى، انزياح نسب كبيرة من الإنتاج الحقيقي عالمياً من مجتمعات إلى مجتمعات أخرى، وتفريغ مجتمعات من القوى العاملة المنتجة وقطاعات وأطر انتظام هذه القوى، والتي حل محلها قطاعات كبيرة من القوى الريعية والمفتتة، ومع تضخم العمالة العابرة المعولمة (والتهجير والتجريف الحاصل في العديد من دول الأزمات الطرفية)، في إطار ذلك كله، حصل تحول في بنية القوى الاجتماعية عالمياً (في المركز كما في الأطراف)، وهذا بدهيّ. ولكن من الضروري دفع تلك الفكرة إلى مغزاها السياسي العملي التنظيمي من أجل وضع طاقة التفكير والممارسة للخروج بأعلى نتيجة لصالح دفع تطوير الصراع بما يتناسب مع تسارع المرحلة وحجم المهام المطلوب التصدي لها وحلها.
إذا كان هذا التحول حاصلاً في بنية القوى المنتجة في جانبها البشري، فإن شكل وعيها المتناسب مع وجودها الاجتماعي يفترض ملامح شهدها التاريخ ولكنها اليوم تتضخم لكي تصير هي الملمح الرئيسي في لوحي الوعي الاجتماعي، وبالتالي للحركة السياسية نفسها.
فالوجود الرث والمتفتت الذي عالجه مفكرو وثوريو المراحل السابقة يخلق صعوبات وظواهر في اللوحة السياسية تعيق تطوير العملية السياسية في البلد المعني. ولكن إذا كان هذا التوسع في الظاهرة قد صار عالمياً، فإن ذلك يقتضي تفكيراً أممياً فيما يخص التصدي لهذه الظاهرة، على أساس قانونية حركة القوى المنتجة وحالتها الثقافية والعقلية والنفسية والتنظيمية- الانضباطية، إلخ.
بعض الأمثلة من غرامشي
إن تجارب الثورات الملونة والحركات السياسية الحالية المنتشرة في بلادنا والعالم في نسختها من «الناشطين» مؤشر مهم على ظاهرة عالجها غرامشي في قسم تحت عنوان «التطوع والكتل الاجتماعية» وسماها بظاهرة «المتطوعين». ويقارن غرامشي في كراسات السجن بين ظاهرة النخب العضوية التي تعبر عن جماعات اجتماعية متجانسة ومتماسكة، وبين ظاهرة نشاطات ومنظمات «المتطوعين» التي تعبر عن العناصر الذين «انفصلوا عنها (عن الكتلة الاجتماعية) بمبادرتهم الفردية العشوائية، والذين غالباً ما يقفون ضدها، أو على الأقل يقفون على الحياد». ولهذه الظاهرة أصل اجتماعي يجد قاعدته الانتاجية الطبقية في «نزعة اللاتسييس وسلبية غالبية الجماهير الشعبية» التي تسمح «بسهولة تجنيد المتطوعين» (لننظر اليوم إلى ظاهرة اللاتسييس عالمياً والتي سادت خلال عقود الليبرالية) و«الكم الرديئ من البورجوازية الوسطى والصغيرة الريفية (أو ريفية النمط)، التي تنتج عدداً كبيراً من المثقفين الساخطين، وبالتالي متطوعين جاهزين لأي مشروع غامض هدام (مهما يكن غريباً) يمينياً أو يسارياً» (أليس توسع العقلية الليبرالية في صفوف الطبقات العاملة في العقود الماضية قاعدة لتوسع العقلية البورجوازية الصغيرة). وتجد أيضاً ظاهرة المتطوعين قاعدتها حسب غرامشي في «الكتلة الكبيرة من البروليتاريا الرثة الذين يطلق عليهم في إيطاليا الذين يموتون جوعاً» (أهناك اليوم أكبر من ظاهرة البروليتاريا الرثة في وجودها الاجتماعي الجائع- في دول الأطراف تحديداً- وفي عقلها المتعفن الرث- تحديداً في دول المركز المنهارة حضارته وثقافته؟!). إذاً، ظاهرة المتطوعين تجد قاعدتها حسب غرامشي في «الكتل الاجتماعية غير المتجانسة» وتشكل المادة البشرية لتلك الحركات السياسية التي تعبر عما سماه غرامشي ظاهرة «السوبرمان» و«الطلائع لا جيوش تساندها، وفدائيون بدون مشاة أو مدفعية». نحن اليوم أمام حالة سياسية عالمية مطبوعة بظاهرة «المتطوعين» والتي تعيق تطوير الحركة السياسية وتثويرها.
التركز الشديد والعولمة
لا يمكن لنتيجة العولمة وكيفية توزيعها لعملية الإنتاج عالمياً وتركزه في أماكن محددة من العالم، لا يمكن لهذه النتيجة أن تكون بلا معنى بما له علاقة بعملية الصراع السياسي والثقافي. فإذا كان الوجود الرث والبورجوازي الصغير طبع العديد من المجتمعات عالمياً، فإن الوجود العمالي الإنتاجي الحقيقي يطبع اليوم مجتمعات معينة. وهذه اللوحة التي فرضتها العولمة تفرض نفسها بكل بساطة اليوم في مشهد الفعالية السياسية الدولية، وخصوصاً تلك الدول التي لها من الدور السياسي-الاجتماعي عالمياً، حيث تلك الفعالية والاستقرار النسبي الداخلي يقومان على دورها في عملية الإنتاج عالمياً. وحتى لا نغرق في الاقتصادية، نقول إن دورها مركب ليس فقط من واقعها الإنتاجي اليوم، ولكن أيضاً من قوانين بنيتها التي تشكلت تاريخياً، وبالتالي تحكمها قوانين داخلية تفرض عليها اتجاهاً محدداً عالمياً من أجل الحفاظ على نفسها. وهنا للعامل الفكري الثقافي البشري الموروث دور مهم في تحويل هذه القانونية التاريخية الموضوعية إلى عنصر ذاتي.
ولكن، وعلى الرغم من أن الاصطفاف العالمي مثلاً لصالح بريكس اليوم، والذي يضم فيه دولاً إنتاجية وفيها من الفعالية الموروثة التي تفرض نفسها، يبرر قضية أن الوجود غير الرث له طابع عالمي (كما للوجود الرث طابع عالمي أيضاً)، وهو يمارس دوره «القيادي» لعلاج (أو مجابهة ظواهر) ورفع مستوى تلك الدول التي تشهد وجودها رثاً أكثر فأكثر (فالظاهرة الداعشية والثورات الملونة والتوجه الثقافي العدمي المعادي لكل حقيقة وبداهة ليست إلا تعبيراً عن هذا الوجود الرث)، ولكن هذا الواقع ليس إلا مؤشراً على ما يجب أن تكونه عملية الفعل الثوري تاريخياً بما يتناسب مع تطوير مسار الحركة الصاعدة عالمياً.
خلاصات أولية
إن دفع المشهد السياسي الحالي عالمياً بما يتنساب مع تثوير الحركة السياسية، بما يتناسب مع ضرورات الانتقال الحضاري عالمياً نحو نمط حياة جديد، يفترض نمطاً جديداً كلياً من الإنتاج الاجتماعي، وما يعنيه ذلك من نمط فعالية مشاركة سياسية واسعة وعميقة، هذا يفترض أممية هذا المشروع الحضاري، ولكن بما يتجاوز الأطر السياسية الحالية التي لن تقدر على التصدي للمهام الثورية المطروحة. وهذا يتطلب تأسيس أطر ومنصات إبداعية أممية، تملأ فراغ الوجود الرث عالمياً، وتطور الحركة السياسية وتثوّرها، لأن مجتمعات بكاملها لن تقدر من داخلها على هذا التثوير، بسبب من طابعها الرث المكبوح. وفي المادة القادمة سنحاول التوسع بهذه المهمة الأممية، أي تحويل فكرة الكومنترن إلى مستوىً أكثر فعالية يكاد يكون حزباً أممياً بالمعنى اليومي التكتيكي لا الإستراتيجي فقط، أي تعظيم الجانب التنظيمي والممارسي من الكومنترن السابق بما تقتضيه اللحظة التاريخية وتعقيدها والمهام المتشابكة فيها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1137