حسين محمد علي يعزف «سيمفونية كوباني»
يخيل لي أنّ ما كنتُ منهمكاً في قراءته بشغف منذ أيام، لم يكن مجرد كتاب، بل ظلال روح استقرت على بياض الورق، تمد جسور التواصل مع القارئ وتشده بدءاً من العبارات الأولى، وعلى مدى نشيج هذه الروح في الصفحات الـ 170.
يأخذك كتاب «مملكة الماء والغرانيق» إلى عوالم مدينة كوباني، وكأنك تعيش الأحداث، وتتبادل الحديث مع أناس أحياء وموتى، ممن وفدوا إلى المكان، أو كانوا من مائه وصلصاله، حتى كانت كيمياء هذه المدينة متعددة الأسماء، ومتغيرة الأقدار، سليلة الهجرات، وخرائط مكاتب الهندسة السياسية التي ارتسمت في غفلة من أبناء المكان.
في هذا الكتاب، وبدءاً من عتبة النص «العنوان» وحتى الخاتمة، يتجاور التأريخ وجماليات اللغة، النوستالجيا والتوثيق، ويندمج ما هو معرفي مع ما هو وجداني- ليكون بين يدي القارئ، سرداً حميمياً و(نصّاً) مثقفاً، زاخراً بالمعلومات والوقائع والأسماء دون أن يخلو من التحليل الذي يكشف بدوره عن فهمٍ عميقٍ في قراءة مسارات التاريخ، ودور الإنسان فيها باعتباره شبكة من العلاقات الاجتماعية.
من منبر (تاريخ كوباني) يعلن الكاتب حكمه على قوى التسلط- المعولمة منها والإقليمية والمحلية– وأدوارها في رسم أقدار المدينة، يتحدث عن الدم الأرمني وتسليعه في بازار مصالح الدول الكبرى، وعن تشظي الجغرافيا الكردية، و«النزعة الإبادية» المتأصلة في ثقافة النخبة الرسمية التركية، إلى مفرخة الديكتاتوريات التي تعاقبت على سورية بعد الاستقلال..، مروراً بـ«التعريب»، كل ذلك دون أن يتعثر بمطب الخطاب السياسي التقليدي الرتيب والممل.
عن النشأة والتكوين وتعدد أسماء المدينة، يقول الكتاب (الألمان كانوا في عجلة من أمرهم استعداداً للحرب، وإلى جانبهم الأتراك الباحثون عن مكان لهم تحت الشمس، بعد أن دالت دولتهم العلية، وانتهت إلى رجل مريض يتعجلون موته، ومن أجل الحرب شقت الشركة الألمانية المسماة (ب . ب . ب) وهي الحروف الثلاثة الأولى من برلين بغداد بصرة سكة الحديد، وكلمة كومباني تعني الشركة وربما جاء الاسم من كلمة كمب وتعني المخيم أو المعسكر. هذا كل شيء عن سحر هذا الاسم (كوباني) ولا شيء آخر، ومرة أخرى كان فولاذ مصانع كروب حاضراً نهماً ليمارس لعبة الموت القادم، إنها الحرب إذاً، حرب الضواري، حرب الآخرين عندنا..).
يكشف الكتاب المزيد من مفارقات هذه التراجيديا (الطرق وسكك القطارات هي شرايين التواصل بين البشر لكن قطار الشرق كان ذاهباً كالسيف في جسد الأرض والناس، فصل بين القرية الواحدة وبين الأخوة والأمهات والأبناء وأولاد العمومة وترك على جانبيه وما يزال الكثير من الآهات وخفقات القلوب الملتاعة والأمنيات المؤجلة لشعب يرفض القسمة على نفسه..).
ويتابع في هذا السياق القول (في أرض الأفياء (كوباني) أو (آرب بينار) كما يحلو للأرمني أن يلفظ، كان لنا اسمنا، وللأرمن اسمهم وللأتراك تسميتهم الخاصة.. فاستحضرت الدولة ترجمة عين العرب من (كانيا عربان) تعبيراً مبكراً عن سياسة التعريب، وحمى وضع اليد على كل ما هو غير عربي).
قائمة الأسماء، أسماء الأشخاص، والأقوام، والأديان، والقرى، أسماء الجوامع والكنائس، والحارات، والأسواق، والطواحين، ودور السينما، الدكاكين، والمقابر، والمدارس، والمقاهي، والفنانين، والأطباء، الأحزاب، والساسة، والعشائر في هذا السرد الماتع تشكل في أدوارها وتفاعلها ومتغيراتها حوامل تاريخ هذه المدينة وتطورها على مدى قرن، وتتجاوز بُعدها المكاني الضيق، وتصلح أن تكون مرآة كل ذاك الحيز من الجغرافيا الذي أرادت له صراعات التاريخ وتوازناته، أن يكون شمال سورية.
من خلال هذه الأسماء يعيد الكاتب الاعتبار للناس العاديين الذين يغيّبهم التاريخ الرسمي- تاريخ النخب- وكأنه يريد أن يقول للقارئ، هؤلاء هم صناع التاريخ الحقيقيون، لا السلطات، لا الحكام والنخب.. فيذكر نماذج منهم بأسمائهم وألقابهم، وأدوارهم، وانتماءاتهم السياسية، وقيمهم، وعوالمهم الروحية، ومهنهم، وطرائفهم، وخلفياتهم الاجتماعية والسياسية والاثنوغرافية.
ومن جملة هذه الأسماء يذكر مثلاً، مؤسسي منظمة الحزب الشيوعي 1936 (تانير يوسفيان خاجيك بادربازيان وموسيس أدريان وسركيس شوشانيان والأخير سافر إلى فنزويلا، وهو أحد أبطال عملية الهروب من السجن عبر حفر نفق تحت الأرض، وقد أخرجت العملية في فيلم سينمائي)، ويذكر أسماء الرعيل الأول من الحركة الكردية (سيد أحمد، عبدو كرو، زكريا عباس، ومحمد أبو حذيفة ومصطفى شيخ حسن، وصالح إيبي، وحبشو ومحمد...) ويتوقف الكاتب عند الحادثة (الأكثر إيلاماً) أي اغتيال الصيدلي عبدي نعسان اليساري الذي كان يقود حزب الشغيلة في أيار1985.
يرصد الكتاب طبيعة العلاقات الاجتماعية، في خمسينيات القرن الماضي بالقول (هنا في مدارس الأرمن كان المعلمون مزيجاً من الأرمن والكرد والعرب والسريان فتتداخل اللغات والأناشيد في احتفالية لا أروع ولا أجمل.. هنا كانت أمي تنضم للجلسات الحميمة على الأرصفة مع جاراتها- أراكسي وآنجيل ومارو- وتكتسب منهن الخبرة في كيفية صنع كعك العيد وحفظ المونة ومشاركتهن في قراءة الفنجان..).
ويتحدث بشكل خاص ومسهب عن دور الأرمن في نشأة وتطور المدينة قائلاً (بصمة الأرمن وتواقيعهم كانت بارزة على كل شيء، الأشجار والأحجار والأسطح والأبواب والشبابيك والستائر، هي بلدة الأرمن بامتياز، هذا الأرمني القادم من المذابح والمولود من رحم المعاناة كان نشيطاً مبادراً عصامياً، كان عليه أن يبدأ حياته من الصفر، لا بل مما قبل الصفر في إثبات الوجود والعراك مع الظروف وذاكرة تحاول ألا تنسى تفاصيل ما جرى بمفردات الألم والجراحات الغائرة عن وطن ربما ضاع إلى الأبد)، ليس ذلك فحسب، بل إن كوباني أصبحت (قاعاً صفصفاً) بعد أن فرغت منهم في الستينيات.
أما عن دور القوى السياسية في تاريخ المدينة، يروي الأستاذ حسين حكاية مد خطوط شبكة الكهرباء قائلاً، (بمبادرة من الشيوعيين وفي إطار حملة جماهيرية حماسية دعا الحزب إلى تنظيم مظاهرة شعبية تطالب بتأمين الكهرباء للبلدة، وتنويرها، وفي السوق طالبوا بإغلاق الدكاكين والخروج إلى السرايا قاصدين مدير المنطقة، وكان يسمى القائم مقام، كانت المظاهرة حاشدة أمام السراي، خرج القائم مقام متفهماً.. وهكذا وعلى جناح السرعة استجابت الحكومة وأنشئت محطة الكهرباء وأنيرت كوباني عام 1957).
بقي أن نشير إلى أن هذه القراءة السريعة لم تُحط إلا بالقليل القليل من الكتاب، وهي مجرد انطباعات عن كتاب نظنه ليس جديراً بالقراءة فحسب، بل يعتبر مرجعاً، ويتضمن قاعدة بيانات شاملة يستمدها الكاتب من ذاكرة سبعينية متقدة، تكشف عن علاقة روحية متأصلة مع المكان وأهله، بالتوازي مع أدوات معرفية- من الواضح أن الكاتب يمسك بتلابيبها- في تحليل العديد من الظواهر، بغض النظر عن الاتفاق والاختلاف معه في بعض الخلاصات، ويشكل علامة فارقة في الخطاب الثقافي- التأريخي الكردي والسوري المعاصر.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1137