ضد القبح العظيم ... الجمال هو شكل الوجود القادم

ضد القبح العظيم ... الجمال هو شكل الوجود القادم

إنّ تتبع الإنتاج الفني والأدبي بمختلف أشكاله يُظهر الخط الحامل للجوهر- القضية الدافعة لولادة هذا الإنتاج، ونقصد بذلك الأعمال «الخالدة» التي صمدت أمام الزمن، والتي صارت بغالبها من الكلاسيكيّات، أو هي ستصير كذلك. والدافع هذا هو الحياة نفسها التي تصارع لكي تكون، وتظهر على هيئة نص أو لوحة أو مقطوعة موسيقية. وخط الحياة هذا لا يظهر دائماً بشكل مباشر. هذا هو جوهر جماليّات الأعمال. وهذه المرحلة، كما قلنا سابقاً، لكون الحياة ككل فيها، وليس جانباً منها، صارت على المحك، فإن وزن الشحنة الجمالية فيها ولا بدّ عظيم، على الرغم من سبب وزن شحنة الألم العظيم نفسها. وما زالت «الأعمال الخالدة» لهذه المرحلة لم تكتمل بعد.

حول قانون الجمال

في الكثير من مقدمات ما قال به ماركس لاحقاً من موقع مادي تاريخي محكوم بالاقتصاد، يعتبر فريديرك شيلر في «رسائل حول التربية الجمالية للبشرية»، من موقعه المثالي، بأن الفرد في تطويعه الطبيعة (الواقع الموضوعي عامة) في محاولته إرضاء حاجاته المادية والمعنوية، ينمو ليرقى بنفسه إلى مراحل «الألوهة»، أو بالأحرى، إظهار صورة الجوهر «الألوهي» فيه. وهذه العملية «المسرحية» تحصل ضمن علاقات تشاركية مع الآخرين. اختصاراً، يعتبر شيلر أنه في هذه العملية يحصل توليف المتناقضات: المجرد والملموس، الواقعي والمثالي، العام والخاص، النشاط وصورته المنعكسة، الحرية والضرورة... في هذه العملية من السعي إلى الحرية يكمن جمال الوجود الحيّ، في تجاوز للإغتراب الشامل وانقسام الإنسان على نفسه. وليس بعيداً عن هذا، ولكن من موقع مادي، يعتبر ماركس في كتاباته التي لم يتوسع فيها حول قضايا الجمال بشكل خاص، أنّ تجاوز قضية الاغتراب في عملية الممارسة الاجتماعية بالتشارك مع الآخرين، وصولاً إلى تحقيق إنسانية الإنسان هي جوهر جمالية الوجود- النوع.

كتابات علم الجمال لاحقاً

في الكتابات حول علم الجمال الماركسي، وضع الباحثون ثلاثة مستويات تتداخل في سبيل فهم الوعي الجمالي، وهي الشيء الموضوعي نفسه، المستوى الذاتي الذي يتحرك بدوافع حاجات تتحدد حسب المرحلة التاريخية المعطاة والوجود الاجتماعي الخاص والممارسة تجاه الواقع الموضوعي، أي النشاط وموقع الفرد المحدد للعلاقة مع الوجود الموضوعي، والمستوى الثالث هو عملية الانعكاس التي تتحدد حسب المستويين الأول والثاني. وهكذا أمكننا فهم الإنتاج الإبداعي في التاريخ ومدارسه وقوانين تتابع هذه المدارس، وكيف ظهرت الواحدة منها من الأخرى، في عملية نفي معقّد، لا يمكن ردّه بشكل مباشر إلى الاقتصادي بل إلى الوجود الاجتماعي بشكل شامل، أي في ترابط مختلف المستويات ومعانيها الصراعية في العقل الفردي. وبليخانوف الذي ركز على قضية الجماليات، يعتبر أن التناقض هو قاعدة فهم الظواهر الجمالية، فالقيم الجمالية التي تطغى في مرحلة ما تكون نقيضاً للقيم التي كانت قبلاً مهيمنة، والتي ستأتي لاحقاً هي بالضرورة نقيضة للتي هي مهيمنة حالياً. وحتى الظواهر الجمالية التي تتغير حسب الظرف والمناسبة الاجتماعية (ضمن حقبة اجتماعية معينة وليس بالضرورة ضمن انتقال بين الحقب) هي نفسها تعبير عن نفي لغيرها، كالطقوس الاجتماعية التي تتغير فيها الملابس. حتى تقييمنا لجماليات الأشياء والظواهر يحكمه مبدأ التناقض، فإدراك الطبيعة في مرحلة ما يختلف عنه في مرحلة أخرى. فالرومنسية مثلاً عظمت من موقع الطبيعة في إنتاجها، بينما كانت الطبيعة في العصور التي كان الإنسان فيها محكوماً بقوة ووحشية الطبيعة، كان إدراكه لها يختلف جذرياً. إذاً وفي كل مرحلة من المراحل، وفي تفاعل المستويات الثلاثة السابق ذكرها، يتحدد الإنتاج الجمالي، وضمناً الوعي الجمالي الخاص بهذه المرحلة أو تلك.

المرحلة النوعية وجمالياتها

يمكن الاستنتاج بخلاصة عامة وسريعة، أن المرحلة ولكونها تعبيراً عن جميع التناقضات وتشابكها المطلوب حله دفعة واحدة، هي مرحلة مشحونة بمختلف الجماليات السابقة طوال التاريخ البشري، ولكنها في ذات الوقت ترفعها إلى مستوىً أكثر توتراً. فهنا نحن لسنا فقط أمام إضافة كمية للتناقضات السابقة، بل في تفاعلها النوعي محمولة على نوعية خط صراع الحياة راهناً، والذي وصل اليوم إلى مرحلة وعيه لذاته أمام حقيقة فنائه الشامل. وهكذا إذاً تكتمل حلقة شيلر حول وعي الكائن لذاته، وهي عند ماركس واضحة في مقولة لما تصير الطبقة لذاتها. وتعميم هذه المقولة اليوم هي أن المجتمع بوعيه الجمالي يبدو أنه يقف على أرضية أن يصير مجتمعا لذاته. واكتمال الحلقة هذا يعني أن ذروة جمالية المرحلة هي الفعل الإنساني نفسه، انطلاقاً من القول إن عملية الانعتاق نفسها هي الواقع الجمالي. وحتى لا نقع في الاختزالية، يمكن القول إن وحدة الإنتاج- العمل الجمالي مع الممارسة الانعتاقية ستكون الملامح المميزة للوعي الجمالي للمرحلة. أي إن الوجود اليومي نفسه، كتعبير عن الحالة العقلية، وضمنا اللغة، في إطار العلاقات المشتركة، سيكون تكثيفاً للعناصر الجمالية التاريخية السابقة، وهنا بالتحديد يكمن قول مكسيم غوركي: بأن الجماليات هي أخلاق المستقبل. وستتداخل مثلاً الحياة اليومية مع الشحنة الموسيقية ومع الفعل المسرحي واللغة الشعرية. وسيكون الإنسان فيها الأجمل نقيضاً للوجود اللاإنساني حالياً للفرد المفرّغ والمبعد عن حقيقته الإنسانية التي ليست اليوم إلا معاناة الحياة لكي توجد. وهذا بحد ذاته يحتاج إلى بحث في تحول النشاط الإنساني، فتجاوز الاغتراب والانقسام يعني فيما يعنيه وحدة النشاط الإنساني المادي والذهني وضمناً أشكال الوعي المختلفة، الجمالية والمنطقية الصريحة والحدسية مثلاً. وهذا هو الإنسان الجديد الذي قيل حوله الكثير.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1076