«سان كيلوت» و«الإنسان الصغير» في أدب القرن 19
عماد صائب الخالد عماد صائب الخالد

«سان كيلوت» و«الإنسان الصغير» في أدب القرن 19

ربما يكون عام 1830- العام الذي حصلت خلاله ثورات تموز العمالية في فرنسا- هو العام الذي ظهر فيه انتهاء الشحنة الرومنسية الإيجابية التي حملتها البرجوازية.

خلال أحداث 1830 في فرنسا، ومن ثم 1848 في مجمل أوروبا، ما جرى هو أنّ «الطبقة الثالثة» (التي نظّر لها سييز قبل الثورة الفرنسية بوصفها المكون الثالث الساعي والمطالب بالوجود إلى جانب كل من طبقتي النبلاء والأكليروس)، وجدت نفسها منقسمة بحدة لا مثيل لها؛ حتى مفهوم «الشعب» انزاح انزياحاً كبيراً بين أيام الثورة الفرنسية، وما بعدها ببضعة عقود.

قبل الثورة وخلالها كان الشعب مكوناً من البرجوازية والـ «سان كيلوت» معاً. «سان كيلوت» هي تسمية رمزية أطلقت على الطبقات الفقيرة في فرنسا، واشتقت من طبيعة ملابس تلك الطبقة، التي ليس ضمنها («كيلوت» الطبقات الغنية الرقيق والمشدود، والذي لا يمكن لمن يمارس أعمالاً عضلية ارتداؤه).

ورغم أنّ الانقسام بين الطبقات الغنية من جهة والـ «سان كيلوت» من جهة أخرى، قد وجد تعبيراته الأولى بالانقسام بين الجيرونديين وحزب الجبل، إلا أنّ استيلاء نابليون على السلطة ضمن جملة ظروف معقدة، ومن ثم عودة الملكية، كلّ ذلك أجّل الفراق النهائي بين الطبقتين... ولكن إلى حين.

بعد استتباب الأمور للبرجوازية، وجدت الطبقات الفقيرة (وخاصة الطبقة العاملة) نفسها في مواجهة شرسة مع حلفائها السابقين. ربما تكون رواية فيكتور هوغو البؤساء، هي أرقى التعبيرات الأدبية عن عملية الانفصال هذه.

«الإنسان الصغير»

لأنّ لكل طبقة أبطالها، بات من الموضوعي منذ أواسط القرن التاسع عشر، أن تولد شخصية «الإنسان الصغير» بأشكال شديدة التنوع في أدب تلك المرحلة.

قبل الحديث أكثر عن «الإنسان الصغير»، يكفي أن نتذكر أن أبطال شكسبير مثلاً، (هاملت، عطيل، ماكبث، أنطونيو في تاجر البندقية، روميو وجولييت، وإلخ) كل هؤلاء الأبطال كانوا ينتمون إلى علية القوم؛ فهم أمراء ونبلاء وتجار...

لم يختلف الأمر أيضاً عند موليير ودانتي، بل وحتى وصولاً إلى جان جاك روسو وبودلير.

ربما الفارق الوحيد، هو أنّ بين كبار الأدباء الذين يصنفون ضمن المدرسة الرومنسية في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، مَن كان صلة الوصل بين مرحلة «الإنسان الكبير» التي سادت فيما يسمى الأدب الكلاسيكي، وبين مرحلة «الإنسان الصغير» التي سادت منذ أواسط القرن التاسع عشر وخاصة في روسيا.

«الإنسان الصغير» هو ذلك الإنسان المقهور المعذّب المضطهد والمهمش. يمكن له أن يكون موظفاً من درجة متدنية، عسكرياً من درجة متدينة، تاجراً صغيراً، فلاحاً، عاملاً... وعلى العموم هو من طبقة «سان كيلوت»، وهم كل أنواع الشخصيات التي كانت تلعب دور الكومبارس في الأدب الكلاسيكي، والتي قفزت إلى متن النص مطالبة بأن تكون محوره الرئيس...

نماذج من «الإنسان الصغير»

جان فالجان وفانتين، في رواية البؤساء، كانا شكلاً أولياً لنموذج الإنسان الصغير. كذلك ماكسيم ماكسيموفيتش في قصة ليرمنتوف «بيلا»، وهو نقيب موظفين من طبقة النبلاء، لكنه نبيل فقير، وليست لديه صلات تمكنه من الصعود اجتماعياً.

الانطلاقة الفعلية لهذا النموذج، جاءت على يد غوغول بالذات؛ والذي يقول عنه تورغنييف: «كلنا خرجنا من معطف غوغول»، إشارة إلى رواية «المعطف» وبطلها أكاكي أكاكيفيتش، الموظف الصغير الذي تدور حياته بأسرها حول محاولاته شراء معطف جديد، بديلاً عن معطفه المتهرئ.

بوشكين أيضاً كان من أوائل من أسسوا لهذا النموذج. وما تجمع عليه الدراسات هو: أنّ شخصية «ناظر المحطة» في قصة بالاسم نفسه ضمن مجموعة قصصية بعنوان: «قصص بيلكين»، تعتبر شخصية مؤسسة لنموذج الإنسان الصغير.

الطريف حقاً، هو أن دويستوفسكي، الذي تبلور عنده هذا النموذج، ووصل ربما إلى أقصى درجاته نضجاً خلال القرن التاسع عشر، يستند إلى هاتين الشخصيتين بالذات، أي: إلى ناظر المحطة وإلى صاحب المعطف. بل ويكشف ذلك في روايته العظيمة «الفقراء»، بأن يجعل بطلها ماكار ديفوشكين يقرأ كلاً من المعطف وناظر المحطة، ويعلق عليهما في رسائله المطولة إلى فارفارا دوبروسيلوفا.

يمكننا أن نجد الإنسان الصغير في معظم روايات دويستوفسكي: راسكولنيكوف ومارميلادوف وسونيا في الجريمة والعقاب، الإخوة كارامازوف ووالدهم، مع خصوصية لشخصية إيليوشا تشبه خصوصية سونيا في الجريمة والعقاب، وتشبه أكثر شخصية الأمير ميشكين في رواية الأبله لدويستوفسكي أيضاً... وميشكين نفسه ربما يمثل جموحاً رومنسياً لدويستوفسكي بعيداً عن «الإنسان الصغير» ولكن كإعادة إحياء لشخصية دون كيشوت لثيربانتس، ولكن ضمن قالب واقعي...

ولا يمكن الحديث عن «الإنسان الصغير» دون المرور على يوليا فاسيليفنا، بطلة القصة الشهيرة لتشيخوف «المغفلة»؛ تلك المربية التي تقبل بهوانٍ ودون مقاومة ابتلاع صاحب عملها لأجرها بشكل كامل تقريباً، ليتبين بعد ذلك أنه كان يمازحها...

ربما الميزة الأساسية لـ «الإنسان الصغير» في روايات القرن التاسع عشر، أنه كان أميل إلى البؤس والتشاؤم والحلم، وبكلمة كان يدور في أروقة فلسفية عميقة وشائكة، مقارنة بإنسان القرن العشرين الصغير، الذي ظهر أكثر تماسكاً وأكثر معرفة بهويته الشخصية والنفسية، لدى أوسترفسكي وبريخت وتينسي وليامز وهيمنغواي ومكسيم غورغي وحنا مينة...

لكن بكل تأكيد، كانت «المرحلة الفلسفية» في شخصية «الإنسان الصغير»، مرحلة ضرورية في إطار التبلور والنضوج؛ وهاتان المرحلتان معاً، هما مرة أخرى، انعكاس للتطور التاريخي نفسه لـ «سان كيلوت»..

معلومات إضافية

العدد رقم:
997