حول الراهن والمرتهَن في القصيدة العربيّة
مرّت عقودٌ من ضخِّ أفكار تافهة عن ضرورة إبعاد الشعر عن السياسة ، فالشعر ينبغي أن لا يكون معنيّاً بالشأن العام أو القهر السائد المتسيِّد . هذه المسألة أخذت وقتا طويلاً جداً في المنطقة العربية وقد نجحت في إبعاد الشعر عن الحياة ، وفي إقامة قطيعة شبه تامة بين النص الشعري وبين الحياة.
لذا من حق الناس أن لا تُعْنى بالنص الذي لا يُعنى بها. نرى الآن الكثير من الدواوين تُطبع ، والناشرون عندما يأخذونها إلى المعارض ، ويدفعون أجور نقلها يتفاجأون بأن لا احد يشتريها ويتحملون مجددا دفع الأجور، لنقلها إلى المخازن أو الإلقاء بها في البحر ، مع أن مَن كتبوا هذه الدواوين ، شعراءُ معروفون ، بل مشاهير ُ ...
على سبيل المثال قصيدة النثر كانت رغبةً في أن تكون قصيدة قريبة من الشارع ، ولكن للأسف عندما وُلِدت قصيدة النثر العربية كانت تقوم على فكرة كيف تبتعد عن الشارع ، وهكذا أصيبت الثقافة العربية بطعنة حقيقية في ابتعاد الشكل الجديد عن الحياة ، وعن نقد الحياة العربية في الوقت الذي كنا نأمل فيه أن يكون هذا الشكل هو أكثر الأشكال ديمقراطية وتأهيلا ليعبر عن الحياة.
أصبحت قصيدة النثر هي شكل العبث . أنا لا أستطيع أن أعمم ، برغم ما ورد عني من موقف سلبي تجاه قصيدة النثر . أنا أرحب بها باعتبارها شكلاً، لا أقول جديداً، لأنها موجودة منذ القرن الـ19 في أوروبا ، وفي الولايات المتحدة . أرحب بها كشكلٍ يضاف إلى أشكال التحديث الأخري في القصيدة العربية المعاصرة ، اعتراضي أن قصيدة النثر عند «بودلير» في فرنسا،و«والت ويتمان» في أمريكا ، كانت من أجل إنزال الشعر من برجه العاجي، والاهتمام بأحوال الناس فـ " بودلير " ارتبطت قصيدته بفتح ميدان «البوليفار» في باريس ، الذي أتاح للناس أن تمشي أكثر في الشوارع ، وسلّط الضوء في أول قصيدة نثر على ناس فقراء ، وهذا كان يعني شيئاً كبيراً. و " والت ويتمان " في الجهة الأخرى من العالم أيضاً ، اهتم في عمله الشهير «أوراق العشب» بناس عاديين في أمريكا ، أما قصيدة النثر العربية في أكثر نصوصها فليست لها علاقة بالشارع ، وإنما بهواجس ذاتية ، وتهويمات شخصية، ليست لها علاقة بالناس، وإنما بالفرد المتفرِّد ، وهذا الشيء أبعد قصيدة النثر العربية عن الحياة . بدلاً من أن تهتم بحياة الناس.
الأوربيون يفضِّلون شعر التصوف العربي ويهتمون بترجمته ، ويهملون القصائد التي تعبر فعلاً عن مشكلات مجتمعنا ، وتاريخنا ، والموقفِ من الثقافات الغربية ، حتى كأن الشعر العربي هو فقط شعر التصوف . إشارتي بأنني لا أعتد بشعر التصوف ، سببها أولاً أن المتصوفة مؤمنون ، ثم لأن الشعر نفسه ضعيف فابن الفارض مثلاً مقلد ، وشعر التصوف الإسلامي محدود هو مجرد تمجيد للخالق ، وليست لديه أسئلة ، والفن دائماً يثير أسئلة.